ميراث الجدّات… كنوز التراث المحكيّ

آراس بيراني_

يُعدُّ التراثُ الحكائيُّ الشّعبيُّ أدباً يمتلكُ ميزاتٍ عدةٍ، فهو حاملُ اللّغة، وجّسراً للعبور من الماضي بلغته، وعاداته وقيمه وأدواته، وسبل عيشه آنذاك كنتاج تجربة، وخبرةٍ عملية لتشكيل التمازج المعرفي للحضارة.

الكاتبةُ /مها ريّا/ في كتابها الجديد المعنون بـ “ميراث الجدات” تحاولُ أن تسجل تفاعلاً بين التّراث الشفوي، والمدوّن بلغةٍ متميزة عبر استعارة الشكل القصصي الشفاهي، بمنحه استهلالاً روائياً عبر تقنياتٍ كتابيةٍ مستلهمةٍ من الأدب الشعبي، إذ يغدو الاتجاهُ الحكائيي -بتفاصيله على السامع أو القارئ – جدولاً دافقاً ثرياً ﻻ يكاد ينضبُ، إذ تجتازُ مسالك السّرد لتغدو الحكاية ينبوعاً متجدداً، لا مستنقعاً يعجُ بطحالب اللغة، فتساهم في منح النص إضاءة وحيوية، محاولة رفع مستوى الذّائقة الفنية والجمالية، خلال مستوى أعمق لبلورة الرّؤية الوجودية للفكر والمنطق الإنساني، وسلوكياته المجتمعية لتعريف الأجيال الجديدة على نماذجَ من الحكاياتِ بنكهةِ راقيةٍ، كأدبٍ حي دافق السرد، يكمنُ في عمقهِ فرح الإنسان وحزنه، خوفه وقلقه، جنونه وحكمته، يأسه وأمله، شقاؤه وسعادته، منتجاً المغامرة الأولى للعقل، حسب تعبير فراس السواح، منحتهُ الكاتبةُ أسلوباً تشويقياً، شحذت قريحتهُ في اتجاه آخر، فقدمت صياغة جديدة لمفهوم الأدب التّراثي بكل ما يحتويه من مزايا روحية، ومادية وإبداعية، بحيوية لغوية أنيقة، ومرنة، فتروي من جديد قصصاً منتشرةً في أوساط مجتمعاتٍ متقاربةٍ، تمتلكُ في حكمتها العميقة البسيطة نمطَ تربيةٍ، وبناءٍ قويمٍ للأجيالِ النّاشئةِ.

فما الحكاية الشعبية؟ ما مفهومها؟ ومدى تقاربها من التراث او الفلكلور؟ وما مدى أهميتها؟

فالحكاية الشعبية هي “حدوتة” أو أحدوثة تتسم بالخيال والغرابة في توارد أحداثها، وصفات أشخاصها، وتم تناقلها مشافهة في إطار عملية تعليم أو تربية أو تسلية، وعلى الأغلب كانت ليالي الشتاء مرتعاً خصباً لسردها، كما أن بعضها رواها الرعاة، وتناقلها العامة من منطقة إلى أخرى، وأضافوا إليها من خيالهم الشعبي الكثير، لكن بقيت تفاصيل الحكايات محافظة على ترتيب أحداثها، ومحتفظة بسمات وصفات شخصياتها، وأغلب الحكايات التراثية تتحدث عن الماضي البعيد، حيث يضيع الزمن ويتماهى مع حالة السرد، لكنها عموماً تتحدث عن الحب والوفاء، والغدر، والبطولة، والنزاهة، والصبر والفقر، والغنى، وعن الشوق والمرض، والموت  بأسلوب سردي ممتع، عبر مزج الواقع بالخيال، لذا نجد في كثير من الحكايا حيوانات تتحدث، وتتصرف بذكاء، كما في حكاية “الفتاة ذات المقص” وحكاية “الشقيقان”.

وايضاً نجد شخصيات مجنحة الخيال، تمتلك صفات خارقة للطبيعة، وحكايات تعتمد الواقعية، وتمتلك نهايات مأساوية، كما في حكاية “عواء الذئب” المستوحاة من حكاية كردية قديمة، كما أشارت الكاتبة في بداية سردها…

كتاب “ميراث الجدات” يحمل بين دفتيه عالماً من الجمال والحكمة، كنوزاً نتوارثها، ونورثها للأجيال القادمة…