كردستان وفلسطين، تركيا وإسرائيل

محمد أرسلان علي (إعلامي وكاتب)-

قرن مرَّ ولا زالت شعوب المنطقة تجتر مآسي الحروب وتراجيديا التقسيم والتشتت الذي عصف في المنطقة بعد التخلص من ظلام الخلافة العثمانية التي تسلطت واحتلت المنطقة أكثر من أربعة قرون ونيف، لندخل بعدها مرحلة جديدة وذلك بعد التخلص من الاحتلال العثماني بالقيام بـ(الثورة العربية الكبرى)، لندخل نفقاً مظلماً آخر تحت مسميات مختلفة، لكن بقي الجوهر كما هو لم يتغير فيه شيء البتة، بمعنى أنه انتقلنا من الاحتلال المباشر للعثمانيين نحو الاحتلال غير المباشر عبر وكلاء وأدوات تم تنصيبهم يتكلمون نفس لغة الشعوب التي تم استعبادها ثانية.

الحرب العالمية الأولى لم تكن للتخلص من العثمانيين المحتلين بقدر ما كانت لاحتلال المنطقة ثانية بعد اكتشاف البترول من قبل بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وقوى الهيمنة الأخرى، فتحت شهيتها على هذا الاكتشاف الجديد الذي كان العامل الأول في تطور الصناعة وانتشارها في عموم العالم. وللسيطرة على هذا الاكتشاف الهام عملت القوى المنتصرة مع بعضها على وضع أجنداتها وأطماعها في المنطقة في المرتبة الأولى على حساب شعوبها، ولتنفيذ لك تم اعتماد سياسة “فرق تسد” و”الأرض المحروقة” سياسةً للوصول إلى مبتغاهم.

عليه كان التقسيم الذي كان بعد وعود كثيرة أُعطيت للعرب والكرد والأرمن على أن يتم منحهم استقلال دولهم إن هم ساعدوهم في التخلص من العثمانيين، وبعد الانتهاء من هذه المهمة تنصلت قوى الهيمنة من وعودها وظهرت حقيقتها الناهبة للشعوب ولكن بعد فوات الأوان واللعب على كافة الأطراف لاستنزافهم، وعليه بدأت تتشكل ما تم تسميته دول مستقلة تخلصت من الانتداب وبتنا نحتفل بهذا اليوم على أنه يوم الاستقلال الوطني وبناء الدولة والوطن.

هكذا قالوا لنا وأقنعونا أن هذا الوطن سيكون الفردوس الذي نبحث عنه وفيه سنعيش بكرامة وحرية ورفاهية ضمن تلك الحدود التي رسموها لنا، والتي لم تكن سوى أقفاص وضعونا بها كي يتم تسيسنا كحيوانات السيرك، لنقفز بعدها على حبال عدة سميت بالقومجية الشوفينية المتعصبة والدين المتطرف، ورحنا نتنازع فيما بيننا على الأحقية في ريادة المنطقة بتلك الأيديولوجيتين القومجية والدينوية، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، نتصارع فيما بيننا وفق ثنائيات زرعوها في أدمغتنا عبر أدواتهم في الأنظمة التي شكلوها.

من تركيا بدأت اللعبة ولا زالت مستمرة وكأن القرن لم يمضِ بعد، نفس اللعبة تتكرر بجوهرها وإن اختلفت الأسماء والتواريخ العددية، وغير ذلك كل شيء يسير وفق ما يريدونه هم وليس نحن، أردوغان الذي لبس قناع الدين واعتبر نفسه خليفة وسلطان المسلمين لا يختلف أبداً عن شخصية السلطان عبد الحميد في أي شيء. كِلاهما يستتر خلف الدين وكِلاهما يتظاهران بالعِداء لليهود وإسرائيل ويتباكيان على القدس ليهيّجوا الشعوب الساذجة التي حولوها إلى قطيع كي تهب إلى الشوارع وتنادي بتحرير القدس بالصراخ فقط، وليكونوا ظاهرة صوتية فقط والتضحية بهم في بازارات وسراديب النخاسة السياسية.

لعبوا على الشعوب ووعدوهم بالحرية والكرامة والديمقراطية إن هم ثاروا على حكامهم وأنظمتهم، وقدموا لهم الأسلحة والدعم المادي ولتبدأ المسرحية الثانية لإدخال المنطقة في الفوضى، وهذه المرة تحت اسم ثورات (الربيع العربي). وثارت الشعوب ودمرت ما كان مقدساً يوماً ما (الوطن – الحدود – السيادة) من أجل وعود منحتها لهم نفس قوى الهيمنة التي وعدت نفس الشعوب قبل قرن من الآن، ولكن خدعوهم وتخلت هذه القوى عن وعودها وحولتهم إلى بيادق وبنادق مأجورة ومرتزقة لدى خليفتهم العثماني أردوغان، بعد أن تخلوا عن وطنهم وشعوبهم، ليذهبوا ينشروا الفوضى في أماكن أخرى، إن كان في ليبيا وأرمينيا واليمن مع بقاء الصراع مستمر في سوريا والعراق حتى حين.

قبل قرن من الزمن تم تقسيم جغرافيا الكرد إلى أربعة أجزاء وتوزيعها على أربعة دول تم تشكيلها وفق أطماعهم، وتقسيم المنطقة برمتها إلى أكثر من عشرين دولة عربية، وبهذا يكون الكرد والعرب هم ضحية التقسيمات التي تمت والوعود التي لم تنفذ وتم التنصل منها في معاهدات مشبوهة بكل مسمياتها (سايكس بيكو – لوزان – سيفر – فرساي – وعد بلفور – مؤتمر القاهرة)، خدعت شعوب المنطقة بمختلف شعوبها من عرب وكرد وأرمن وآشور وكلدان وارتكبت بحقهم المجازر والتهجير القسري فقط لهندسة المجتمعات من جديد وفق ما تقتضي أطماع قوى الهيمنة المنتصرة آنذاك في الحرب العالمية الأولى.

أكثر من لاقى الإجحاف هما الشعبان الكردي والفلسطيني اللذين تم احتلال أرضهم من قبل تركيا وإسرائيل، تركيا التي كانت السبب في إقامة دولة إسرائيل عن طريق سلاطينها العثمانيين، والآن أردوغان يُكمل ما بدأه أجداده كي يوسع من حدود إسرائيل لتصل لهدفها من الفرات إلى النيل، وكل ذلك تحت اسم الإسلام والسذج ممن يسيرون خلف أردوغان.

تركيا أردوغان التي بدأت حرباً شاملة ضد الكرد في تركيا وسوريا، والآن في العراق، من أجل احتلال منطقة “متينا”، كما صرح مسؤولون أتراك بأنهم بصدد بناء قاعدة عسكرية فيها، وبكل تأكيد الحجة هي محاربة الإرهاب، التي باتت شماعة عند أردوغان ليقوم من خلفها باحتلال الأراضي واستعادة العثمنة. وما يقوم به الآن الجيش التركي في منطقة “متينا والزاب” لا يختلف كثيراً عما تقوم به إسرائيل في غزة والقدس، كِلاهما يحاولان احتلال أراضٍ ليست لهما، وكِلاهما يتحجج بالإرهاب وكِلاهما يعتمدان النزعة القومية والدينية، وكِلاهما يستفيد من الصمت العربي المخزي، وأمام أعينهم يتم القتل والدمار والتهجير.

العلاقة التركية – الإسرائيلية معلومة للجميع، ولا نريد الخوض بتفاصيلها الممتدة منذ أكثر من قرن من الزمن، وبكل تأكيد أنه لولا تركيا لما وجدت إسرائيل بالأساس، والعكس صحيح بنفس الوقت، وكلاهما يعتمد على الآخر في وجوده في المنطقة واحتلاله المدن، وكِلاهما يلعبان بمشاعر الشعوب ودغدغتها دينياً وقومجياً.

إن كان الكرد والفلسطينيون هما ضحية الفكر الطوراني والصهيوني الفاشيين المعتمدان على الشعب الواحد واللغة الواحدة والدولة الدينية والقومية الواحدة، فهذا يحتم على الشعبين الكردي والفلسطيني على وجه الخصوص، والكردي والعربي في العموم، أن يتحدوا في جبهة مشتركة عريضة لمجابهة هذه العنجهية الفاشية الطورانية والصهيونية.

بكل تأكيد ثمة فرق بين الصهيونية كفكر متعصب ومنغلق والشعب اليهودي وكذلك الطورانية كفكر فاشي والشعب التركي، وحينما نقول محاربة الفكر المتعصب الفاشي نقصد به العقلية التي تفكر بها تلك النخبة التي ترى مصالحها في صراع وقتال الشعوب مع بعضها البعض وأن يكون “الكل ضد الكل”. بينما ما ننشده أن تتعايش هذه الشعوب وغيرها مع بعضها البعض على أساس “الكل مع الكل ومن أجل الكل”، حينها يمكن أن تعود المنطقة إلى حقيقتها الجغرافية والتاريخية، التي هي عبارة عن مجموعة من الشعوب والثقافات المتعايشة مع بعضها وليست مجموعة من الدول المتعصبة والقومية متناحرة ومتصارعة مع بعضها البعض.