فنُّ المسافةِ

ريما آل كلزلي (كاتبة وشاعرة سورية)_

المسافة عنصر مادي، يشكل جزءًا مهمًا في علاقاتنا، فيما العلاقات فضاء واسع جداً، ولك أن تتخيل كيفية تناغم الأشياء، والصور في هذا الفضاء، وتناسقها كلما حاولت تعلُّم طرق آمنة للحفاظ على استمراريتها، وسعة النفس في مداها، كما قال هنري ديفيد ثورو: ”لا شيء يجعل الأرض تبدو واسعة مثل وجود أصدقاء على مسافة”.

ولأن الكمال ليس من صفات البشر، فقد يعتريهم التعب، والملل، والقلق، والفتور حسب طبيعتهم البشرية، لذلك كان مفهوم (حفظ المسافات) بين النفس والآخرين مهمًا جدًا، لبلورة إيجابيات أية علاقة، ورؤيتها بصورة سليمة، وفق قوانين يضعها العقل بعيدًا عن العاطفة، لأن الشمس تمنح الدفء للجميع، وتسطع بالنور ما دامت بعيدة فقط. وقيل في الشعر العربي:

“وقد زعموا أن المحبَّ إذا دنا

يُمَلُّ وإن النأي يشفي من الوجدِ

بكلٍ تداوينا فلم يُشفَ ما بنا

على أن قربَ الدارِ خيرٌ من البعد”

فهل اعتمد البعد والقرب على استراتيجية محددة؟

دائمًا هناك حدود للتعامل مع الآخر، تجلّت بوضوح بعد أزمة فيروس صغير جداً جعل التباعد سمة، غيّرت مفاهيم كثيرة حول شكل وأهمية العلاقات، فتعلّم الجميع ترك مسافة آمنة بينهم وبين بعضهم بعضًا.

لا تقترب كثيراً حد الذوبان، طالما كان الاقتراب الشديد من أية مشكلة يغرق الفرد في طوفانها، حتى يعمى عن رؤية الحلول المناسبة لها، وقد يقول قائل: لكن العلاقات ليست مشاكل بما فيها الحب، بينما الحب هو الحفاظ على صورتك كما هي في عين الآخر، نعم هي ليست مشاكل، لكن الذوبان التام في العلاقات، هو الذي يلغي وجود الفرد، حتى تضيع شخصيته، وتكون لدى الآخر صورة لا يعرفك فيها، ويصبح تبعًا للآخر لدرجة تتغير فيها ملامحه التي أرادها الآخر فيه، في الأصل، وفي هذا إلغاء للذات مقيت، يورث حقوقًا ليست مستوجبة، وتضحيات لم تكن تضيف أهمية مجدية، بل حتى على مستوى النفس، فإنه من المهم أن يأخذ المرء بعض المسافة من نفسه، حسب قول فاتسلاف هافيل.

بينما تعزز فكرة الحفاظ على مسافة آمنة، لأجل الأنا، من خلال مسك العصا من الوسط، لخلق توازن يحفظ للطرفين حقوقهم. فدائمًا مسافات الأمان تحميك من الصدمات والخيبات المستقبلية، يقول إدوارد هول: ”إن إدراك المسافة، والحفاظ عليها مسألة مهمة لإبقاء الودّ، والاحترام المتبادل في العلاقات ما بين الأشخاص، ونفقد علاقتنا بالآخرين، عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة“.

سؤال حريّ بنا الإجابة عنه، فيما لو غرق أحدهم في أي بحر، كيف له الإحاطة بالمشهد؟ وفي الوقوف على قمة جبل كيف سيكون المشهد من الأعلى؟

إن تسليط العدسة المكبرة على كل شيء، قد يجعله قبيحاً، لأن المباشرة والاقتراب الشديد يزيل حالة تكامل المشهد في النظر.

فإلغاء المسافات سبب في فشل العلاقات، وكما يقول سيمون الكليس: “فالمسافة تجعل الحب ينمو”.

طالما كانت الاستمرارية في الحب مبتغى العقلاء، فالقمر أكثر جمالًا لأنه في وسط السماء المظلمة، كما النار فاكهة الشتاء، لكن جمالية المنظر لا تحتم اللمس.

والمهابة في أعين الغرباء، مشهد مطلوب يفقد قيمته بسبب كثرة الهزل، وكسر الحواجز معهم، حتى أولئك الذين نحبهم لا يجب أن نتسبب لهم بحصار عاطفي خانق، تحت مسمّى الحب.

لا تلغِ المسافات، ارسم حدودك بمحبة وحددّ الأمور التي تحبها، والتي ترفضها، فإنه من الجيد أن يكون لديك بعض المسافة مع عائلتك، “كلما كنت أقرب لهم من أجل الحب“ حسب قول أوليفي مارتينيز.