ضحية الرجب.. برغيف خبزها تُعيل عائلتها

جل آغا/ غزال العمر –

تقف على قدميها منذ شروق الشمس لما بعد فترة الظهيرة؛ تتصبب حبات العرق من جبينها؛ تحرك يديها يمنةً ويسرةً بخفة ومهارة؛ لتعبق رائحة خبز الصاج في كافة أنحاء بلدة جل آغا؛ فرغيف الخبز الذي تعتبره مصدر رزقها وعائلتها؛ مهنتها التي تحفظ بها كرامتها وتوفر من خلالها احتياجاتها.

إنّها “أم حيدر” كما ينادونها سكان المنطقة “ضحية الرجب”؛ امرأة خمسينية أم لولد وحيد وزوج كفيف من سكان بلدة جل آغا؛ تقع على عاتقها مهام جسام؛ فتقول: “ظروف الحياة المعيشية صعبة؛ أدوية وعلاج وطفل وبيت ومستلزمات”.

ورغم ما تعانيه من أمراض جسدية؛ إلاّ أنّها تمارس مهنتها منذ خمس سنوات “الخبز على الصاج” بأحد مطاعم الشاورما في المنطقة.

“العمل كرامة”

تقول الأم ضحية بأنّها سعيدة بعملها الذي يُغنيها عن سؤال الناس؛ “فأحوال الناس واحدة والظروف الاقتصادية وما يرافقها من تبعات؛ كارتفاع أسعار صرف الدولار وانخفاض الليرة السورية وغلاء المواد التموينية هم جماعي يشكو منه الجميع” بحسب تعبيرها.

تُعد ضحية رغفان الخبز للزبائن الذين يشترونه فهو محبب في بعض الأكلات الشعبية؛ كثريد الباميا لا سيما أنه موسمها؛ تتقاضى مئة ليرة عن كلّ رغيف تصنعه يديها.

 أما كيف تبدأ بالتجهيز لعملها والتحضير فقد تحدثت عن ذلك لصحيفتنا “روناهي” قائلةً: “أجهز العجين بعد أنّ أنخل الطحين وأتأكد من جاهزيته للعجن ثم أكوره لقطع صغيرة وأنتظره ليرتاح قليلاً لأبدأ بالخبز”.

تجهز كلّ هذا بمكان لا يتجاوز المترين وفرن المطعم يزيد من حرارة المكان حرارة والمرأة تتحمل؛ فهي تكافح من أجل لقمة عيشها؛ فـ “العمل كرامة” بحسب تعبيرها.

علّمتها والدتها الخبز بالبيض

وعند سؤالنا لها عمن علمها الخبز تبسمت قائلةً: “حين علمتني أمي كنت طفلة تفضل اللعب مع صديقاتها على التعلم” أغرتها أمها بالتعلم وحدثتها عن ضرورة تعلم الكار؛ لتكون البيضة التي لا تشعر بقيمتها إلاّ حين تستبدلها عند البائع الحواج كمكافأة لها بقطع السكاكر والحلوى والأساور؛ ففي كلّ مرة يتحسن بها أدائها يزيد عدد البيضات وتزيد قيمة المشتريات الأمر الذي أعجب الطفلة.

وتابعت حديثها الشيق الذي زاد تشويقاً مع ازدياد سرعتها بصنع الرغيف: “صارت أمي تتباهى بخبزي بين جاراتها وتوكل لي مهمة الخبز تحت إشرافها”.

لم يذهب تعب الأم سدىً فتعب الأمس بات مهنة اليوم وخبز الطفلة صار مضرباً للمثل برقته وجودته ونضجه؛ لتردد وملامح الشوق لأمها قد بدت بعينيها “الله يرحمك يا يمة”.

 وأضافت موجهةً النصيحة لكلّ فتاة بتعلم أيّ شيء من الممكن أنّ يكون مصدراً للرزق مع الأيام متسائلةً من كان يظن بأنّ الناس ورغم تطور الأفران وتوفر المعجنات والفطائر ستعود للخبز على الصاج سواءً بالبيوت أو حتى في المطاعم؛ معللةً ذلك بما حدث للبلد خلال العشرة أعوام الأخيرة من حرب ونقص في الموارد.

صعوبات العمل تؤثر على صحتها

بين وقت وآخر تخمد المكافحة ضحية نيران صاجها لتلفظ أنفاسها وتبل ريقها بشربة ماء تطفئ بها لهيب الصيف؛ فصحتها لم تعد تساعدها كما كانت؛ فخفة الحركة التي يراها الناظر بها تدفع ثمنها غالياً: “ظهري يؤلمني من الوقوف لفترات طويلة والمناقير توجع رقبتي”.

تعاني من أمراض عدة يحتاج المريض بها لأخذ قسطٍ وافٍ من الراحة لكن هيهات أن تنعم بها بوضع معيشي سيء كالذي تعيشه.

تحظى ضحية بسمعة حسنة ومكانة عند رب عملها فهو “يحترم سنها ويقدر قيمة ما تفعله” فما أنّ تنهي كمية الطحين المطلوب منها إنجازها حتى تأخذ عدة أرغفة لأهل بيتها وسندويشة شاورما تفرح بها قلب طفلها الذي ينتظرها بفارغ الصبر كل يوم ليذهب للعب مع رفاقه فهو يبقى حبيس البيت لحين عودة أمه من العمل ليلبي طلبات والده الكفيف.

قناعة ورضا

تعود ضحية لبيتها والرضا والقناعة تملأ قلبها؛ لتعبّر عن ذلك بقولها: “أتذكر سكان المخيمات والمهجرين فأحمد الله بأني أعيش بين جدران بيت يأويني” وككل أم تتمنى السعادة لأولادها؛ لضحية أيضاً أحلام تتمنى أنّ تتحقق وتقول عن ذلك: “أتمنى أن يكبر ولدي ويتعلم ويعيش أيام أجمل مما نحن عليه اليوم”.

ضحية ماهي إلاّ غيض من فيض من قصص أمهات سوريات؛ حولن المستحيل لحقيقة؛ يعملن بيد ويربين باليد الأخرى؛ لتفتح لهن الحياة آفاقها ومجالاتها وليلوحن للعالم بأسره بأنّهن صامدات ومقاومات ومناضلات ومكافحات ومن تحت أيديهن تصنع المعجزات؛ فطوبى لكلّ امرأة تبني بحبات عرقها الأوطان.