الوعي المجتمعي في مواجهة الحرب الخاصة التركية

غاندي إسكندر

---

تتعدد أنواع الحروب، التي يكون المقصد من ورائها، تدمير النفس البشرية، والسيطرة على أسلوب حياة البشر، عبر أدوات معينة، كالإعلام الموجه، وبث الشائعات والترويج لها، وغسيل الأدمغة، وهدم مرتكزات البنيان الأخلاقي للمجتمعات، فقد بينت الوقائع على الأرض أن النتائج المستخلصة من الحرب الخاصة تفوق نتائج الحرب العسكرية من حيث سرعة إحداث التغيير المطلوب في الساحة المستهدفة، وبكلفة أقل.

ما الحرب الخاصة:

هي الأفعال، والممارسات، وحرب تغيير السلوكيات والقناعات، وميدانها الشعوب والأفراد، وهي من أخطر أنواع  الأسلحة؛ لأنها تقوم على إضعاف معنويات الخصم، وتحطيم إرادته، وتوجيه فكره، وعقيدته وآرائه، وإحلال أفكار أخرى مكانها، وهنا مكمن قوتها، وهي إحكام السيطرة على الخصم من خلال ممارسة الحرب النفسية، ولقد اختلف المتخصصون في مبناها اللغوي، فمنهم من يطلق عليها الحرب الباردة، أو حرب الأفكار، والحرب الدعائية، فهي حرب لا يمكن مواجهتها الند للند؛ لأنها تدور في الظلام، وخلف الأستار، وتتغلغل بدون لفت الأنظار، أو إحداث أي ضجيج، وتشمل الحرب الخاصة مجمل العمليات الإعلامية والنفسية، والاستخباراتية، إضافة إلى الاقتصادية، والسياسية، وهي أوسع وأشمل وأخطر من المفاهيم التقليدية لعمليات التأثير في النفس البشرية.

متطلبات الحرب الخاصة، ومميزاتها

الحرب الخاصة تتطلب أدوات ووحدات خاصة، ووسائل خاصة تتناسب مع المهام الموكلة إليها، وتعمل بالتوازي مع القوى الأساسية، التي تخوض الحرب أو الصراع وتخدم الغرض نفسه، أو الهدف المرسوم بوسائل تتعارض مع معايير الأخلاق والقواعد، التي وضعتها البشرية، وأهم ما يميز الحرب الخاصة الناعمة، عن الحروب العسكرية التقليدية، هي: أنها لا تحتاج إلى إعلان رسمي، ولا ذرائع معقدة لتسويقها، ولا تقع أي خسائر بشرية في صفوف المهاجم، وميزانيتها غير ضخمة، غالبا ما تستخدم الأدوات المدنية، الانترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، الإعلام، لا يوجد بعدها إعمار بسبب انهيار المفاهيم والقيم، لا تصطدم القوى المهاجمة بالمنظمات الدولية، نتائج الحسم فيها أسرع، لا تسجل وقائعها في ذاكرة التاريخ كالحروب العسكرية التقليدية، وخسارتها لا تؤدي إلى تبعات سياسية.

ثالوث الاستغلال (الجنس، الرياضة، الفن)

يتفرد القائد الأممي والمفكر (عبد الله أوجلان) بتحليل هذا الثالوث المميت في حياة الشعوب، بعد استغلاله من قبل قوى الهيمنة العالمية، وهو أي الثالوث، وفق رؤى القائد عبد الله  أوجلان إحدى أهم المرتكزات، التي تنطلق منها الرأسمالية في سبيل التوغل في خلايا المجتمع وتفتيتها، ومن ثم إعادة تجميعها بعد إفراغها من محتواها الأخلاقي والاجتماعي والثقافي، ويقول  القائد المفكر عبد الله أوجلان بخصوص هذا الثالوث: “عن طريق الثالوث الصناعي: صناعة الجنس، صناعة الرياضة، وصناعة الفن والثقافة، يتم قصف الذكاءين العاطفي، والتحليلي بشكل متوال ومتداخل؛ ليشل تأثيرهما كلياً عبر حملات الدعاية الإعلامية المتواصلة والكثيفة، فيكتمل بذلك غزو ذهنية المجتمع المتفرج، بالمستطاع القول، أن الاستغلال الجنسي من أهم وسائل النظام في بسط هيمنته، و بتقييم فظ، يمكننا القول: إنه وبتصنيع هذا الثالوث ( الجنس، الرياضة، الثقافة ،الفن ) يكون فنُّ الحكم قد بلغ ذروته ومن غير المحال إنشاء حكم رأس المال العالمي، أو سلطة الدولة القومية، مالم تصنع هذه الميادين الثلاثة، أعود وأشدد على أني لا أقوم بذم، وانتقاد الجنس، والفن، والثقافة، أو الرياضة كظواهر قائمة بذاتها، بل أنتقد تمييع وتصنيع هذه الميادين الحياتية، والحيوية في النشوء الاجتماعي، وتأمين ديمومته، فهذا الثلاثي يقوم بإفراغ مضامين ما بقي في الفرد من سمات، لتحويله إلى حثالة لا جدوى منها، ورميه جانبا من بعدها”.

الحرب الخاصة التركية في باكور كردستان

 تتسم الأيديولوجيا التركية تجاه الشعوب غير التركية، بأن على الشعوب، الذين يعيشون على الجغرافية المسماة (تركيا) الحالية، بأن يتماهوا مع لغة واحدة، وأمة واحدة، وقومية واحدة، ألا وهي القومية التركية، فلا وجود  (للكرد والعرب والسريان، والأرمن، واللاز، والبلغار، واليونان، واليهود، والشركس)، فتركيا تستخدم دوما مقولة ” لا توجد أمة كردية، وأن الكرد هم أتراك الجبال” وبهذه النظرة الاقصائية الشوفونية العنصرية، هي تستهدف تدمير ومحو الهوية، والثقافة والعادات الكردية، وتفرض عليهم عنوة الثقافة التركية، فمحق، وسحق هويات الشعوب، وسرقة تاريخها، ولاسيما كل ما يتعلق بالوجود الكردي، هو ديدن تركي قديم، ويتجدد باستمرار، وهو أمر يتعلق بالذهنية الاقصائية، والعقل التركي، فالعمل على إنكار الهوية الكردية، هو أولى إجراءات الحرب الخاصة التركية المتبعة في (باكور كردستان)، فمعظم الساسة الأتراك يطلقون شعار ” أن الكرد يستطيعون التمتع بالحريات العامة، شريطة إنكارهم لهويتهم القومية ” ففي بلد مثل تركيا، لا يطبق مبدأ المساواة، إلا إذا أنكر الكرد، وكل مختلف عرقيا مع العرق التركي هويته، وكل ما يمت إلى ثقافته، ويتم ذلك دون شك عن طريق الترهيب  والإكراه، ولاسيما في مراكز الجندرمة، والشرطة ومراكز الحرس والسجون باستخدام الضغط والتعذيب، كما يتضح هذا الإكراه أيضا في وثائق الاتهام، وفي قرارات الحكم الصادرة عن المحاكم، وتُسخّر الصحافة والإذاعة والتلفاز التركي، ووسائل الإعلام المختلفة إلى جانب الإدارات الحكومية  للمساهمة في عمليات الإكراه هذه، وينطبق ذلك الشيء على المؤسسات الدينية، والتعليمية، وبإمكان الكردي والعربي، والأرمني والشركسي، الذي ينكر أصله أن يحصل على ما يريد، أي أن يصبح عاملا ومعلما، وبرلمانيا وطالبا، ورياضيا ورجل أعمال، ووزير وأستاذ في الجامعة، أما إذا أصر أي شخص على التمسك بهويته القومية، والثقافية، فجميع الأبواب توصد أمامه، ويصبح في نظر المجتمع التركي متهما بالإرهاب، ومكانه أقبية السجون والتصفية الجسدية، فالترغيب بالمال والوظائف، والحياة الهانئة والمرتبات الشهرية، واستخدام الشعارات الدينية، ودعم مؤسسة حماة القرى والوسائل الإعلامية، واستخدام الفن والموسيقا والرياضة هي أهم مرتكزات دائرة الحرب الخاصة، وهي ما تسعى إليه تركيا لتتريك الشعوب المختلفة معها، وعلى رأسها، الشعب الكردي .

 محاولات النيل من مكتسبات ثورة (روجآفا)

جندت دولة الاحتلال التركي أكثر من 100 فضائية تركية، وقناة روداو، وكردستان 24 الناطقتين بالكردية، والعديد من الفضائيات العربية، وعلى رأسها قناة الجزيرة القطرية إضافة إلى القنوات المرتبطة بالإخوان المسلمين في سوريا (كأورينت، وسوريا، وحلب اليوم) لبث الفتنة، ودق إسفين بين الشعوب، التي انتصرت على الإرهاب، وقاومت المشروع الأردوغاني، وكان، ولازال الشغل الشاغل لهذه القنوات المغرضة هو: بث اليأس والشكوك ومحاولة تشكيل الرأي العام حول نظرية(المكتسبات الآنية والمؤقتة)، التي سرعان ما ستتبخر مع الهجوم العسكري المزمع القيام به ضد المنطقة، وذلك لإيقاف مشاريع البناء وترسيخ الديمقراطية، وإبعاد التركيز حول الهدف الأسمى، وهو استمرارية الثورة والحفاظ على ما تم إنجازه، ومن الأدوات التي تستخدمها الدولة التركية، والتي ترمي إلى إحداث شرخ بين شعوب المنطقة، هو أن الدولة التركية تستهدف فقط الموالين للإدارة الذاتية، وحزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي عندما غزت (عفرين وسري كانيه، وكري سبي) كان معظم ضحايا قصفها، هم من الأطفال والشيوخ والنساء، كما أن أحد أهم الأدوات، التي استخدمتها تركيا في حربها الخاصة ضد أبناء المنطقة هي محاولة ضرب الكرد بالكرد، وخلق الفتنة بين الشعبين العربي والكردي، من خلال إطلاق دعايات شارك فيها مسؤولو المجلس الوطني الكردي، أمثال (عبد الحكيم بشار، وإبراهيم برو، وفؤاد عليكو) ومفادها ” أن حزب الاتحاد الديمقراطي، والإدارة الذاتية، يريدان تسليم (روج آفا) للعرب، وينفذان أجندات حكومة دمشق، وطرح سؤال للمجتمع الكردي، لماذا يتدخل الكردي في منبج، والرقة، ودير الزو ر؟” وذلك لمخاطبة الجمهور الكردي، وتأليبه ضد الإدارة الذاتية، ومن طرف آخر مخاطبة الجمهور العربي” بأن القوات الكردية تحتل المدن العربية ” ومن الأساليب الرخيصة، التي يستخدمها الاحتلال التركي، هو عرض واستعراض القوى، والتلويح بالهجوم المباغت على قرى وبلدات شمال وشرق سوريا؛ بغية بث الرعب والهلع في نفوس المدنيين، ودفعهم إلى التفكير في الخلاص الفردي، والهجرة، ولاسيما فئة الشباب.

المواجهة والصمود والوعي المجتمعي

الشعب الكردي على مدى السنوات الماضية، ولاسيما السنوات، التي أعقبت المواجهة بين حركة حرية كردستان، والجيش التركي، قد اعتاد أسلوب الحرب الخاصة، الذي تتقنها دوائر الاستخبارات التركية، ولأن الشعب الكردي، والشعوب العربية، والأرمنية، والآشورية، قد ذاقت الأمرين تحت ظل الطربوش التركي، وسطوة سياطه، فإن أي محاولة لخلق الفتنة، وتشتيت المجتمع، وحالة التآخي بين شعوب شمال وشرق سوريا، باءت وستبوء بالفشل، والدليل هو ثبات ونجاح نظام الإدارة الذاتية، التي خلفت وراءها عشر سنوات من الانجازات، والانتصارات، وقد ظهرت في مواجهة ثقافة الرعب والموت، والقلق، الذي عملت عليه دائرة الحرب الخاصة التركية، طيلة السنوات المنصرمة، ثقافة جديدة، ألا وهي ثقافة المقاومة، والتشبث بالأرض، والحفاظ على الهوية، وحمايتها أمام حملات التشويه المختلة .