“الهول” السوريُّ ومدينةُ الإنسانيةِ..

بشار جرار/ واشنطن_

تقديرا لإرث داعية اللاعنف، المهاتما غاندي، قررت اليونسكو في منتصف العقد الأخير من العقد الماضي، تكريس جائزة؛ لتكريم الأفراد والمؤسسات، التي تجسد قيم التسامح، انطلقت الفكرة من النقيض، بمعنى توضيح المآسي المترتبة على غياب ثقافة التسامح.

يعج مشرقنا المكلوم، وتضج ملاذاتنا الآمنة، أو التي نظنها كذلك في المهجر، بالكثير من أعراض هذا المرض العضال، لا بل حتى من الآثار الجانبية المترتبة لأوهام ما، نظنه علاجا لآفة غياب التسامح، ومنشؤها ثقافة الكراهية، وهوس الخوف من الآخر، والتوجس من المستقبل، والانغلاق إلى حد التوقع في الماضي التليد، وإن كان مجيدا كله أو بعضه.

تهزني تلك المشاهد المتكررة لللاجئين العراقيين، والسوريين عبر البحار، والبراري تحت وطأة ظروف مناخية متطرفة في قسوتها حرا وبردا، فما بالك إن كان الفقر والمرض رفيق الدرب الوحيد، الذي تركه مهربو البشر -مافيات الاتجار بالبشر- لأسر أو بقايا أسر، يتم نهش أجسادهم أحياء وأمواتا. حتى المافيات تجمعها التفاهمات: تلك معنية باستقدام أيدي عاملة رخيصة، وتلك لغايات الرق الجنسي، وما بينهما من عمليات “حصاد الأعضاء البشرية” بعلم وبغير علم الضحايا، لا فرق بين مافيات تركية، وأفغانية، وإيرانية، وأوروبية، وأمريكا الجنوبية، الكل يتاجر بالكل، كِلَى عطشى، وقرنيات عيون غضة، ومخدرات “طبيعية ومصنعة” تماما كما الطاعون الصيني في نسخته الأصلية والمخلقة والمحورة.

“يا للهول!”، وقد كان عنوان مقالة سابقة لي كرستها، “معسكر- مخيم الهول” القنبلة الموقوتة، ففيما كنت أتابع فصلا جديدا من مأساة العالقين، هذه المرة على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، قام ناشط مؤثر أو، مغرض بنبش أرشيف الهول، وإذ بحفنة من نسوة “داعشيات” يتفاخرن باستحالة “الكورنه” لمناعتهن الذاتية، كونهن على “منهاج السلف الصالح”! كأنهن لم يسمعن بطاعون عمواس!

ولؤلؤ عيون المتباكين على العالقين في أوروبا، العابرين إليها عبر المياه والأراضي التركية، أتساءل: كم من تلك العينة وجدت طريقها عبر الحدود؟. فهنا في الولايات المتحدة، أقرت إدارة بايدن (أوباما الثالثة): أن المئات من “المكورنين”، تسربوا عبر المتسللين، عبر المكسيك إلى الولايات الأمريكية الحدودية في الجنوب، وبخاصة تكساس، وعلى تباعد الجغرافيا والخلفيات السياسية، والأمنية، للحالتين، فقد تم رصد إيرانيين، وأفغان، وأفارقه، بين اللاجئين، ولم يكونوا -كما يريد البعض-حصرهم بالعراقيين، والسوريين شرقا أو الكولومبيين، والغواتيماليين غربا.

مناسبة دولية أخرى، احتفى بها العالم بفارق أسبوعين. فقد صادف في الحادي والثلاثين من أكتوبر الماضي، اليوم العالمي للمدن. لاح اسم “مدينة الإنسانية” في الأفق وسط صور الدمار الآتية من مدن موغلة في القدم، مشبعة في الحضارة في مشرقنا المكلوم. سمعنا عن “خراب بصرة” ونعلم جميعا من خربها قديما وحديثا. شهد مخيم – معسكر الهول، بدايات ما قد يؤسس لمدن جديدة، أو يدمر القائم منها. فالتعامل مع الطاعون الفكري، لا يقل أهمية عن الطاعون الفيروسي، ولكل أعراضه وأسبابه وعلاجاته.

ليس خافيا على أحد، أن سوريا، ومنطقة الإدارة الذاتية، لا تملكان إمكانات الإمارات لمحاكاة المدينة الإنسانية، لكن الأمر جدير بالتجربة بقرار سياسي، أولا، ومن ثم لن يقصر الخيرون من أشقاء وأصدقاء بالدعم.

قرار أبو ظبي السياسي، بدأ منذ سنوات بسلسلة من الخطوات التراكمية في مسيرة التسامح والسلام دينيا فكريا وسياسيا. وثيقة رأس الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر، ومن ثم الاتفاق الإبراهيمي. هذه القواعد الروحية، والأخلاقية، التي قامت عليها المدينة الإنسانية، التي استقبلت الطلبة العرب بإجلائهم عن “ووهان” الصينية منشأ كوفيد التاسع عشر. وهي المدينة ذاتها التي مدت يد العون، للذين غادروا أفغانستان، على عجل هربا من بطش حركة طالبان الإرهابية الانتقامي، وخشية فوضى لن تكون خلاقة حتما.

ما يجري عبر الحدود البيلاروسية – البولندية، جرس إنذار جديد، يذكّر المعنيين بمعسكر الهول، أن نافذة الفرصة تضيق، وأن اللحظة باتت ناضجة، لقرار بتفكيك هذه القنبلة وتحويلها إلى مدينة إنسانية، بحق بمعنى مجمع سكني مؤقت، يقطنه مدنيون فقط، لا مفرّخو ومدربو جيل جديد من الإرهابيين، الذين سيخلقون حتما أزمة حدود في بضع سنين، إما لهم أو لأهالي الوطن الأصليين الهاربين من غدرهم، من كان يظن يوما – مع احترامي لدول القطرية جميعها في “بلاد العرب أوطاني”- أن تتحول العراق وسوريا إلى دول مصدرة للمهاجرين، بعد أن احتضنت أجيال “النكبة والنكسة”؟