الشاعر القس جوزيف إيليا: “الشّاعر الحقيقيّ هو ذاك الّذي لا يخلو عالمه من قيم الخير والحقّ والصّلاح”

حاوره/ عبدالرحمن محمد –

---

جمال الطبيعة، وسحرها الآسر بين ماء وسهل وجبل، كان وما يزال من أولى وأهم الأمور التي تدفع الى المزيد من الإبداع وبخاصة في مجال الشعر والأدب، وقد حبا الله مناطق شمال سوريا وإقليم الجزيرة بخاصة طبيعة متنوعة جميلة كانت ولا زالت تساهم في تفتح القرائح الشعرية والأدبية والكثير من المبدعين، وفي حوارنا هذا نحاول التعرف على أحد أبناء المنطقة وشعراءها وهو رجل دين إضافة لكتاباته الشعرية التي تتناول الكثير من القضايا الإنسانية والثقافية.

ـ بدايةً أرى أن نُعرّف القرّاء بكم في نبذةٍ مختصرةٍ عن شخصكم الكريم؟

في الثالث عشر من شهر آذار من عام ألفٍ وتسعمائة وأربعة وستّين أبصرَت عيناي النّور لأوّل مرّةٍ في قريةٍ صغيرةٍ من قرى “ديريك (المالكيّة )” تدعى ” كاني مطرب – الكاظميّة ” حيث قضيت فيها مع أسرتي سنوات طفولتي المبكّرة إلى أن قُيّض لنا الانتقال منها إلى مدينة ” ديريك (المالكيّة )” لمتابعة تعليمي في مدارسها. وبعد نيلي الشّهادة الثانويّة تمّ إيفادي  من قبل ” السّينودس الإنجيليّ في سوريّة ولبنان ” إلى القاهرة بمصر للتخصّص في العلوم الدّينيّة في إحدى كلّياتها الّلاهوتيّة وبعد نيلي للشّهادة المطلوبة عدت إلى مدينتي لأُعيّن رئيسًا للطّائفة الإنجيليّة فيها بعد سيامتي قسّيسًّا فرعيتها لما يقرب من ربع قرنٍ إلى أن دفعتني الظروف القاسية لتركها نازحًا مع زوجتي وأبنائي الثّلاثة إلى ألمانيا قبل أكثر من أربع سنوات .

ـ ما هي قصّتك مع الأدب والشِّعر كيف بدأت ومتى؟

 لا أتذكّرني إلّا عاشقًا لجميع أنواع الأدب ولا سيّما الشِّعر وقد دفعني عشقي هذا إلى قراءة آلاف الكتب منذ سنٍّ مبكّرةٍ وقلّما وجدني أحدٌ إلّا والكتاب في يديّ وقد كان لهذا الشّغف في القراءة الدور الأعظم في تأسيس بنائي الّلغوي والمعرفيّ وصقل موهبتي التي ابتدأت في البروز والظّهور مبكّرًا فأصبحت أكتب وأقرأ شعري في قاعة المركز الثّقافيّ وأنا فتًى صغيرٌ وقد استقبلني الجمهور بحرارةٍ ممّا شجّعني لمواصلة التّجربة في أكثر من مكانٍ فعُرِفتُ شاعرًا ومحاضرًا ومهتمًّا بالأدب والفكر وقضاياهما، وهكذا خطوت خطواتي الأولى في هذا الطّريق ولمّا أزل سائرًا فيه ولا أظنّني سأتوقّف معتبرًا نفسي في بدايته .

ـ منذ سنواتٍ وأنت مقيمٌ بعيدًا عن بلدك؛ فما الّذي تركته الغربة في نفسك وفي شِعرك؟

إنّ أكثر ما تركته الغربة في نفسي هو الإحساس الشّديد بالوجع والمرارة والحزن والإحباط إذ ليس ما هو أقسى على الإنسان من أن يكون له وطنٌ رائعٌ جميلٌ كسوريّة ويضطّر لتركه والنزوح عنه إلى وطنٍ آخر غريبٍ لا تربطه به أيّة رابطة لا من جهة التاريخ أو الجغرافيا أو الثّقافة أو الّلغة أو الأشخاص وكلّ هذا تراه متجلّيًّا بيّنًا في جميع ما كتبته وأكتبه ويندر أن تجد لي قصيدةً لم تتّشح بالأسى والشّوق إلى أرضٍ احتضنت أجمل سنين عمري وأغناها وأكثرها عطاءً، ولعلّ قصيدتي ” أنا الغريب” هي من أهمّ قصائدي الّتي تشرح قساوة الغربة وبشاعتها والّتي قلت في بعضٍ منها:

“أنا الغريبُ هنا حُـزني يحطّمُنـي

والشّوقُ كالسّيفِ في صدري يعذّبُني

أُرمى على طينِ   خيباتٍ   مُدمِّرةٍ

روحيْ حُطامٌ وأفعى السُّمِ في بدَني

يأبى  الصّباحُ  فلا  يأتي  لنافذتي

والّليلُ في تربةِ الآهاتِ يزرعني

يلفُّني  ثوبُ  يأسٍ هَدَّ  خاصرتي

كأنّني جسدٌ   قد   لُفَّ  في  كَفَنِ”

ـ أي أنواع الشِّعر يكتبه الشاعر القس جوزيف إلياس ويقاربه أكثر من سواه؟

أكتب الشِّعر العموديَّ ذو الشّطرين بجميع أوزانه المعروفة فلم أترك بحرًا من بحور الشِّعر إلّا ونظمت عليه حتّى تلك البحور الّتي تُعتبر بحكم الميّتة لقلّة النظم عليها من قبل الشّعراء حديثًا وقديمًا؛ ولقد قمت بصياغة مفاتيح جديدةٍ لتسهيل حفظ جميع أوزان الشِّعر دونما تعقيدٍ.

وكذلك فإنّي أكتب شِعر التّفعيلة غير المقيَّد بنظام الشّطرين والملتزم بالوزن والإيقاع والتّقفية. وهو النّوع من الشِّعر الّذي أجد نفسي فيه؛ وآخذ راحتي في ربوعه أكثر لأنّ فيه مساحةً أوسع للتّعبير عن الأفكار والمشاعر والرّؤى والأخيلة. أمّا ما اصّطلح على تسميته بالشِّعر النثريّ فلست أقربه إلّا قارئًا.

ـ هل يُفهم من هذا أنّك لست من أنصار القصيدة النثريّة إنْ لم أقل أنّك من الواقفين ضدّها؟

إن كنت لا أكتب قصيدة النثر فهذا لا يعني أنّني أقف ضدًّا لها فهناك شعراء كبار أبدعوا في حقولها وأنتجوا نصوصًا فيها سيُكتب لها الخلود لروعتها وجمالها وإتقانها، لكن المشكلة في قصيدة النثر أنّها فتحت الباب واسعًا أمام محدوديّ الموهبة للتّطفّل على موائد الشِّعر وذلك لسهولتها وابتعادها عن الضوابط الوزّنيّة ممّا ملأ السّاحة الأدبيّة بالرّداءة والتدنّي.

إنّني أستمتع بالنّصّ النثريّ المتقن كثيرًا، كما أستمتع بالنّصّ الشّعريّ المتقن، فليس الشّكل هو المهمّ هنا وإنّما الفحوى والرّوح والّلغة. مع انحيازي التّام للموسيقى والإيقاع في الشِّعر.

ـ ألديك شعراء مفضَّلون إن قديمًا أو حديثًا؟

لا شعراء مفضَّلون لديّ، بل ثمّة نصوصٌ شِعريّةٌ أفضّلها على غيرها، فما يستهوي ذائقتي هو النّصّ المغلَّف بالجمال والدّهشة بصرف النظر عن كاتبه فما أكثر النصوص غير الجيّدة لشعراء عظامٍ، وما أكثر النصوص المتميّزة لشعراء لم يأخذوا حقّهم من الذّيوع والشّهرة.

ـ هل أنت مع تلحين القصيدة وغنائها وهل لك تجربةٌ في هذا المجال؟

لا ريب في أنّ غناء القصيدة يساعد على انتشارها وترديدها شعبيًّا بشرط أن يكون من يلحّنها ومن يقوم بإنشادها على مستوى القصيدة من الجودة والنّقاء والسّمو، ولعلّ الشّعراء الّذين تُغنّي بشِعرهم هم الأكثر شهرةً بين الشّعراء.

وقد لُحّنت بعض قصائدي وغنّاها بعض الفنّانين أذكر منهم : أمجد رحّال و د.عبد الله المصارع وطارق مراد وهاني رمزي صموئيل وإبراهيم كيڤو، و د. مخلص جرجس وفخري حنّا.

ـ تجمعون بين كونكم رجل دينٍ ورجل أدبٍ في آنٍ واحدٍ فكيف يمكنك التّوفيق والجمع بين الحالين؟

إنّ جميع الأديان الّتي عرفتها البشريّة لم تخلُ نصوصها من الزّركشات والرّوح الشّعريّة؛ ولك أن تعرف أنّ كثيرًا من الأنبياء كانوا أيضًا شعراء كسيّدنا “داوود” وسيّدنا “سليمان” وسيّدنا “إرميا” وغيرهم . ناهيك عن رجال دينٍ كثرٍ برعوا في نظم الشّعر. فليس هناك تعارضٌ جدّيٌّ ما بين لغة الشِّعر ولغة الدّين لا بل إنّ رجل الدّين بامتلاكه موهبة الشِّعر يكون أقدر على توصيل رسالة الدّين وشرحها وتبسيطها. والشّاعر الحقيقيّ هو ذاك الّذي لا يخلو عالمه من قيم الخير والحقّ والصّلاح وهي ذات القيم الّتي يعمل رجل الدّين على نشرها والتّبشير بها. ولقد خدمني الشِّعر كثيرًا جدًّا في نقل أهداف الدّين السّامية بلغةٍ أنقى وأجمل وأسلس وأغنى.

ـ ما الّذي يقع على عاتق المثقّفين والأدباء في ظلّ هذه الظروف الصّعبة الاستثنائيّة الّتي تقاسي من ثقلها بلداننا منذ سنواتٍ؟

إنّ مسؤوليّة المثقّف والأديب والشّاعر والمفكّر لا تقلّ خطورةً ولا أهميّةً عن مسؤوليّة السّياسي في إيقاظ الوعي وإظهار مواطن الخلل في مفاصل المجتمع وإبراز مخاطر الكراهيّة ولجم جماح التّطرّف وتشجيع الأفكار الّتي من شأنها دعم حقّ الفرد وحرّيته وحفظ السّلم الأهليّ، ولهذا فإنّه لزامًا عليهم من منطلق هذه المسؤوليّة أن ينهضوا ويُنهضوا كي يتمّ ضمان عيشٍ أكرم ومستقبلٍ أفضل لأجيالنا القادمة. 

ـ الشِّعر مرتبطٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بعالم المرأة الّتي هي منبع الجمال ومصدر إلهامٍ للشّعراء فأين المرأة في شِعرك؟

المرأة لم تغب عن شِعري؛ وهي حيّةٌ حاضرةٌ في كلّ ما كتبته، لكن كجزءٍ من الكلّ ولم أعمد إلى فصلها وجعلها موضوعًا مستقلًّا، فخاطبتها مع الجميع، إيمانًا منّي بأنّها أعظم من أن تُحشر في زوايا الغزل والتّشبيب، رافضًا محاولات تشييئها ولا سيّما في هذه المرحلة الدّقيقة من حاضرنا، ولقد قلت مرّةً في هذا الجانب:

“قالت :  لماذا  لا  تقولُ  غزَلا

وثغرُ شِعرِكَ   يسيلُ   عسَلا ..؟

– سيّدتي أنا النّقاءُ غايتي

لوجهِهِ أسكبُ نفسيْ جُمَلا

في كلِّ جملةٍ ترينَ امرأةً

فإنْ تزيّنتْ  غدوتُ  رَجُلا”

ـ أنت شاعرٌ غزير الإنتاج دائم الكتابة فهل لنا بمعرفة عناوين إبداعاتك المطبوعة أو الّتي ستُطبع لاحقًا؟

لم أدفع بشِعري إلى الطّبع بعد مكتفيًا بنشره عبر وسائل التواصل المختلفة الّتي أراها أكثر انتشارًا وأقدر على إيصال شِعري بيسرٍ وسهولةٍ إلى شرائح أوسع من النّاس، من الكتب الّتي قلّما يُلتفت إليها في زمننا، هذا لغلاء أسعارها وسيطرة وسائل التواصل الافتراضيّة على المشهد العام للحياة. ولكن هذا لا يمنعني من التّفكير بطباعة أعمالي الشِّعريّة الكاملة في مجلّدٍ واحدٍ كبيرٍ أو موزّعة بين دواوين عديدة.

ـ لو كان لك كلمةٌ أخيرةٌ لتقولها فإلى من تراك توجّهها؟

إنّ الحياة نعمة النعم فإن ضاعت فمن الصعب إيجادها لهذا فلنقبض عليها بنواجذنا ولنعمل على جعلها أكثر جمالًا ولنعشها بأقصى ما نستطيع من القوّة والرّغبة، هذه هي كلمتي لجميع أبناء شعبنا بإثنيّاته المختلفة ومذاهبه المتعدّدة وأحزابه المتنوّعة وكفانا هذا الجحيم الذّي نتلظّى بنيرانه، ولننهض لبناء ما تهدّم محافظين على سلامة الوطن وقوّته، شاكرًا لكم استضافتكم الكريمة مع أخلص تمنياتي لكم بدوام التألق والفوز والهناء.