محمد بشير_
لقد فرضت الأزمة السورية، التي بدأت في ربيع 2011 تدخلات متتالية، من قبل أغلب الدول الكبرى، والإقليمية؛ بسبب موقعها الجيوستراتيجي الهام، ومآلاتها على تلك الدول، وإن الهزة التي ستحدث في سوريا، لن تقف عند حدودها لارتباطات تاريخية، ووجود إشكاليات، فُرضت على المنطقة وجعلتها في غليان دائم، ومشاكل لا حصر لها.
لذلك لم تقف التدخلات على الحياد، بل راعت مصالحها، من خلال تحديد مسارات لها، وكيفيه التدخل وزمانه، ووضع الخطط، وتسخير الامكانات؛ لتخرج الأزمة، التي على ما يبدو لا حل يلوح بالأفق، وبمكاسب يحفظ مصالحها وأمنها القومي، التوقيت المناسب للتدخل بالنسبة لتلك الدول، كان مهما لفرض شروط معينة، والحصول على تنازلات أكبر، فروسيا مثلا لم تتدخل إلا في عام 2015 أي بعد مرور أربع سنوات على حدوث الأزمة، ولم تكن خطوة مدروسة، بل استشعرت اقتراب سقوط النظام، الذي كان يحتاج إلى قشة تنقذه من الغرق، فتدخلت بعد موافقة من مجلس الاتحاد الروسي، أمريكا أيضا، كان اختيارها للتوقيت المناسب مدروسا، والذي كان أواخر أيلول من عام 2014 حيث كان الإرهابيون يسيطرون على مساحات شاسعة من سوريا، وبدأت قوتهم تتنامى، وتشكل خطرا على الأمن العالمي.
وضمن هذه الأحداث تشكلت وحدات حماية الشعب، القوة الرئيسية الفاعلة فيها، ضمن قوات سوريا الديمقراطية “قسد” فيما بعد، وانتهى الأمر بطرد مرتزقة داعش من آخر معاقلها في بلدة الباغوز، بآذار عام 2019 على يد هذه القوات، طبعا إلى جانب استشعارها بالخطر الإيراني وتمدده بالمنطقة، أما تركيا فتدخلت تحت ذريعة الحفاظ على “أمنها القومي” والذي حافظت عليه مرتزقة داعش، خلال فترة وجودهم على حدودها.
أمام هذه التدخلات كلها استطاعت الإدارة الذاتية محاكاه الواقع، وخلق نوع من التوازن في التعامل، رغم الاشكاليات الكبيرة بين تلك الدول المؤثرة في الشأن السوري، ورغم الامكانات القليلة المتنامية ككرة الثلج، لتشكل قوة عسكرية لفتت أنظار العالم إليها، وخاصة أثناء حملاتها ضد مرتزقة داعش، التي أرهبت العالم، وأيضا القوة الاقتصادية، التي لبت متطلبات المجتمع بشكل جيد مقارنة بباقي المناطق، سواء تلك التي تحت سيطرة النظام، أو التي تُسيطر عليها المرتزقة المدعومة من تركيا، وحتى أفضل من بعض دول الجوار في بعض الجزئيات، رغم التحديات الكبيرة من تراجع للعملة، والحصار وإغلاق المعابر، وكذلك القوة المجتمعية التي حافظت إلى درجة كبيرة على طبيعتها الأصلية المتجذرة، ولم تنزلق نحو حرب طائفية، والتي راهن عليها الكثيرون، وذلك بفضل الفكر الديمقراطي المتمثل بإخوة الشعوب، والعيش المشترك الذي لا مناصّ منه للوصول إلى برّ الأمان.
فهذه القوة كلها والحفاظ عليها، لم تأت بمحض الصدفة، إنما جاءت نتيجة مقاربات، وخلق توازنات صعبة، مع تلك الدول، والتي أثرت في بعض الأحيان على العلاقات فيما بين تلك الدول نفسها، رغم ذلك، هناك ضغوطات هائلة على هذه الادارة داخلياً وخارجياً ومؤامرة كبيرة لإفشالها، لذلك حاولت الإدارة التقارب بمسافات مناسبة، تراعي المتغيرات الدولية وعلى مبدأ لا عدو دائم، ولا صديق دائم، والتفكير باتزان عند أخذ القرارات، ضمن دائرة الصراع الدولية في هذه البقعة المهمة من العالم، وأن تصل إلى الآن محافظة على كيانها ومكتسباتها، ومستعدة للتقدم واسترجاع الاراضي المحتلة، حين تسنح الفرصة، فالسياسة المرنة المتبعة، وعدم إغلاق باب الحوار مع الأطراف كلها، جعلت إمكانية الحوار ممكناً في أية لحظة، في حال تغيرت الظروف.
إن القيام بتلك الخطوات يجب أن يأتي بالتزامن مع الحفاظ على خط المقاومة، الذي هو الضامن الأكثر فعالية في الحفاظ على البقاء، والأقرب للانتصار، وهذا الخط هو المصدر الرئيسي لخلق التوازنات، فلولا المقاومة والنضال، لما تدخلت أمريكا ضمن تحالف لقتال مرتزقة داعش بكوباني، ولما انبهر العالم بلبواتٍ -قل نظيرها- بعد أن سطرت أروع الملاحم في مقارعة أعتى قوة ارهابية، ولما اضطر الروس لفرض نفسه ضامناً للحوار بين الإدارة الذاتية والنظام، ولو أنه مشكوك في مصداقيتهم بسبب تاريخهم السيء في ذلك، وخاصة مع الكرد، ولما توقفت تركيا عن تهديدها الأخير باحتلال مناطق أخرى من الشمال السوري، صحيح أنه هناك مصالح دولية في الأزمة السورية، وصحيح أن تدويلها أصبح واقعاً، ولن تحدث تغيرات إلا بقرارات أو باتفاقيات، أو عقد مؤتمرات بين المتدخلين الدوليين والإقليمين، إلا إن التاريخ أثبت أن مقاومة الشعوب المؤمنة بحتمية النصر، وبالإرادة القوية تستطيع أن تُقلب المعادلة وتنتصر في النهاية.
