أيام هزت العالم

دجوار أحمد آغا-

قبل بضع سنوات وفي خضم الأحداث الدراماتيكية التي كانت تعصف بالعالم عامة والشرق الأوسط خاصةً، وبينما كنا نُفكر في كيفية استثمار الظروف الموضوعية التي تهيأت لنا ككرد وكشعوب المنطقة من أجل تحقيق بعض المكتسبات، كان هناك من يخطط ويرسم ملامح عصر جديد سوف يغير من نمط تفكيرنا وحياتنا وسياستنا وإلى الأبد. وكان هناك من يصلون الليل بالنهار ولا ينامون، يعملون كخلية نحل يلتقون مع جميع الأطراف والفعاليات السياسية والمجتمعية والشعبية والدينية، ومن كافة شرائح المجتمع ومكوناته من كرد وعرب، آشور وسريان، أرمن وتركمان، شركس وكلدان. كانت اللقاءات تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل، وتعلو الأصوات والنقاشات حول هذا البند أو ذاك، تغضب إحدى القوى وتُخاصم الاجتماع أخرى مقررة مغادرته، يتم الحوار والنقاش ويبقى الأمل باستمرار الحوارات والنقاشات وبكل شفافية وصراحة هي الأساس في الوصول إلى الحل الديمقراطي من خلال تقبل الآخر.

 عقدنا الاجتماعات واحتدمت النقاشات واستطعنا جميعاً بفضل الجهود الجبارة المبذولة من الجميع، وبالأخص الجنود المجهولون، التوصل إلى عقد اجتماعي تم توقيعه من الأطراف المشاركة في هذه الاجتماعات، بما يضمن حقوق الجميع ويحافظ عليها ويُمتِّن أواصر المحبة والتكاتف والعمل المشترك بين الجميع، وللأسف الشديد ففي اللحظات الأخيرة انسحب قسم من الإخوة للتوقيع على العقد، لكن الأغلبية عقدوا العزم على النهوض بهذه المهمة التاريخية التي حملوها عن قناعة. كان يوماً تاريخياً أتذكره جيداً بعد أن نلنا الثقة من المجلس التشريعي لمقاطعة الجزيرة في 21 كانون الثاني 2014 – أي قبل جنيف1 بيوم واحد، خرجنا إلى ساحة الشهيد جهاد في عامودا كإدارة ذاتية دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، كانت الجماهير الشعبية تهتف بالشعارات الثورية والوطنية السورية والقومية الكردية في مشهد قلما يتكرر.

انطلقنا بعدها إلى قامشلو العاصمة والتي كانت قد هيأت نفسها جيداً في دوار الإدارة الذاتية بوسط شارع منير حبيب المعروف جيداً، كانت الجماهير محتشدة تُقدر بالآلاف، وبشق الأنفس استطعنا كأعضاء المجلس التنفيذي والتشريعي للمقاطعة أن نصل إلى المنصة التي أُعِدَّت للإعلان عن هذه الإدارة الفريدة من نوعها في المنطقة. لدى صعودنا إلى المنصة تعالت الزغاريد ونثر الأرز والهتافات الثورية والأناشيد الحماسية، وكانت المرة الأولى التي نشاهد فيها الكردي في الوسط ممسكاً بيد السرياني والعربي والآشوري، المسلم إلى جانب المسيحي والإيزيدي، كان مشهداً ثورياً بامتياز، المتاريس تملأ الشوارع، والمقاتلون من وحدات حماية الشعب YPG ، ووحدات حماية المرأة YPJ ، وقوى الأمن الداخلي ASAYIȘ، بملابسهم العسكرية وأسلحتهم الفردية وهيئاتهم المغبرة، قادمون جميعاً من جبهات القتال لحماية هذا الاجتماع الجماهيري الكبير.

 تحدث الرفيق آلدار خليل قائلاً: جنيف هنا في قامشلو، وحدتنا هي وحدة الشعب السوري وشعارنا هو العيش المشترك وأخوة الشعوب، ونحن نسير على نهج الأمة الديمقراطية. تذكرت حينها كومونة باريس، ثورة أكتوبر والأيام العشرة التي هزت العالم. وفي المساء التقى بنا هفال آلدار وخاطبنا قائلاً: أنتم تطوعتم بمحض إرادتكم للقيام بخدمة شعبكم، ستواجهون صعوبات وعراقيل كثيرة، وربما يتم احتلال هذه المنطقة من جانب الأعداء وقد تعلقون على أعواد المشانق، هل أنتم مستعدون لذلك؟ وقتها تحمسنا كثيراً وقلنا بصوت واحد: نحن جاهزون للتضحية بأرواحنا من أجل شعبنا.

كانت من أجمل الأيام وأروع الذكريات.. اليوم الأول لاجتماعنا في مقر المجلس التنفيذي والذي كان سابقاً المركز الثقافي في عامودا، كان أكرم حسو رئيس المجلس ونوابه الدكتور حسين عزام وإليزابيت كورية ونحن جميعنا رؤساء الهيئات الاثنين والعشرين نعمل من أجل أن نصنع طاولة لنعقد اجتماعنا الأول عليها، وكانت كل طاولة تختلف عن الأخرى من حيث الارتفاع ونضطر لأن نضع بعض الحجارة والحصى تحت أرجلها لتتساوى في الارتفاع، كم كنا سعداء رغم كل المخاطر التي كانت تهددنا حينها.

ها نحن الآن نتجاوز العام السابع وندخل العام الثامن من عمر الإدارة التي تطورت وطورت معها الكثير من المفاهيم حول العيش المشترك وتقبل الآخر وأخوة الشعوب، كما أعادت إحياء العديد من القيم والمبادئ الإنسانية التي كُنّا قد خسرناها في خضم الجشع والطمع الرأسمالي الهادف إلى الربح بسرعة وبشتى الوسائل، إلى جانب ذلك توسعت المناطق التي حررناها، فمن مقاطعة الجزيرة 21 كانون الثاني وكوباني 27 وعفرين 29 من عام 2014 استطعنا أن نتحول إلى إقليم الجزيرة (مقاطعة قامشلو والحسكة) وإقليم الفرات (مقاطعة كوباني وكري سبي “تل أبيض”) وإقليم عفرين (مقاطعة عفرين والشهباء) وأن نُضيف إليها إدارات مدنية تأسست في المناطق التي حُررت لاحقاً (منبج – الطبقة – الرقة – دير الزور).

 لأول مرة في الشرق الأوسط تقوم إدارة تستند إلى عقد اجتماعي يكون بمثابة دستور بين ممثلي شعوب متنوعة لإدارة أنفسهم بأنفسهم، هل نحن في حلم أم هي حقيقة؟ العالم أجمع ينظر ويشاهد كيف نحمل البندقية بيد ونبني الإنسان والمكان باليد الأخرى، وأصبحت مقاتلاتنا وملابسهن رمزاً لماركات عالمية للألبسة وتنتشر صورهن في ساحات لندن وباريس وطوكيو وبرلين. بدأت الوفود بالقدوم لرؤية هذه التجربة الفريدة عن كثب، اللقاءات والاجتماعات مستمرة ومتواصلة للوصول إلى ما هو أفضل لشعبنا، كنا نحن الكرد طليعة هذا الحراك وهذه الثورة، قدمنا الآلاف من خيرة بناتنا وأبنائنا شهداء للوصول إلى ما نحن عليه الآن. نعم نحن بنينا هذه الإدارة بالدماء والتضحيات الجسام، لم تأتِ من فراغ، استندت إلى فكر حر ونظرية ثورية قائمة على فلسفة المفكر والثائر الكبير عبد الله اوجلان، وهي فلسفة الأمة الديمقراطية، التي تختزل كل قضايا الشعوب وتحقق لها ذاتها، هذا الأمر لم يرق للأعداء الذين كانوا ولا زالوا يتربصون بنا فكان أن وجهوا كل حقدهم الدفين صوبَ هذه الإدارة الفتية، وكانت معركة كوباني الحد الفاصل ما بين الدفاع والهجوم فكُسرت شوكة الهجوم الوحشي لما يُسمى بتنظيم داعش. وتدخلت قوات البيشمركة لإسناد ودعم المقاتلين بالأسلحة الثقيلة كما تشكل تحالف دولي لمحاربة التنظيم الإرهابي الذي كان قد سيطر على مساحات شاسعة، من بينها الموصل والرقة التي اتخذها عاصمة لدولة الخلافة المزعومة، الانتصار في كوباني من خلال الإرادة الحرة الصلبة للمقاومين عجّل في العد التنازلي لزوال هذه الخلافة المصطنعة، حتى كان القضاء على آخر معاقله في الباغوز بريف دير الزور الشرقي.

مرت الأيام والأسابيع، الأشهر والسنوات، ونحن كنا ومازلنا وسنبقى نقاوم بيد ونبني باليد الأخرى، الأخطار التي تحيق بنا وتهددنا تزداد يوماً بعد يوم، ونحن نتغير ونكتسب المزيد من الخبرة، كنا بدون خبرة في مجال الإدارة، تعلمنا واكتسبنا خبرة لا بأس بها بكافة المجالات، تعلمنا من شعبنا، توقفنا على أخطائنا ونواقصنا التي نُقر ونعترف بها علناً أمام شعبنا، فنحن أبناء هذا الشعب العظيم الذي ضحى بالغالي والنفيس للوصول إلى حريته والعيش بكرامة، وإن النصر سيكون حليفنا مهما طال الزمن.