أنا والبشدري والمسألة الكردية ـ3ـ

 رجائي فايد-

من أهم ما خرجت به من اطلاعي على محاضر جلسات المجلس التشريعي هو التباين الواضح بين مواقف الحكومية العراقية، قبل اتفاقية الجزائر آذار 1957 وبعدها، عندما أعلن بيان الحكم الذاتي في آذار 1970 وتطبيقه الفعلي في 1974، ثم اعتراض الحركة الكردية على هذا التطبيق، لأنه يجعل اليد العليا في المنطقة للأمن العراقي، ويكف يد مؤسسات الحكم الذاتي ويجعلها هياكل كرتونية بلا حرية في قراراتها فضلاً عن مسائل عقدية أخرى.

 ومنها مسألة تبعية (كركوك) التي رفضت الحكومة العراقية التطرق إليها، لذلك تمركزت الحركة الكردية في الجبل واستأنفت القتال، وتدخلت إيران واستغلت ذلك من أجل الضغط على العراق لتعديل خط الحدود بين الدولتين، وعندما تحقق لإيران ما تريد وأصبح شط العرب هو الخط الحدودي بين الدولتين بموجب اتفاقية الجزائر، تخلت إيران عن تقديم الدعم للكرد العراقيين، بل عملت على تحسين العلاقات مع الحكومة العراقية. وبالتالي أدارت ظهرها للكرد وأغلقت حدودها أمام نشاطها، وهي حالة تكررت في تاريخ الحركة الكردية، في تركيا حدث ذلك للكرد مع “أتاتورك” وقبل ذلك مع قاضى محمد في إيران، كما تبين لنا في نظرة حكومة البعث وتعاملها مع مؤسسات الحكم الذاتي، فقبل اتفاقية الجزائر والحرب مع الكرد مشتعلة، تخلى الجميع عن الكرد ومطالبهم العادلة، وما كان للكرد سوى الجبل الصديق الوفي في كل مرة، وكان خطاب الحكومة العراقية ضد الكرد خطاباً ولأول مرة اختفت فيها الاتهام بالخيانة والعمالة واستخدمت كلمة المتمردون.

 كما شهد المجلس التشريعي احتجاجات على تصرفات الجهات الأمنية التي ضربت بيد من حديد لضرورة تحجيمها، وكان ذلك تحولاً بارزاً في سياسة الحكومة العراقية آنذاك، ولكن بمجرد توقيع اتفاقية الجزائر وما حل بالحركة الكردية من انتكاسة، انقلب بعدها الخطاب، فعاد إليه العنف والاتهامات السابقة، وتبخرت الأحلام الوردية التي كان يعيشها أعضاء المجلس التشريعي، حيث ما كان يعتبر قبل اتفاقية الجزائر عملاً مشروعاً أصبح عملاً مرفوضاً ومداناً من قبل الحكومة ويستحق صاحبه العقاب.

 وبعد توقيع اتفاقية الجزائر بأيام زار القيادي البعثي طه ياسين رمضان المجلس التشريعي، وخلال الزيارة طالب أحد أعضاء المجلس ببعض المطالب ما أثار غضب رمضان فضرب بيده بقوة على الطاولة قائلاً: “منذ الآن لن نسمح ببرزاني أو طلباني جديد أو أي كردي يطالب بالحقوق”، وبقرار من (رمضان) تقرر إسقاط عضوية هذا العضو من المجلس ولم يعرف مصيره بعد تلك الجلسة، ليكون عبرة للآخرين وبشرى لبداية عهد جديد يتحول فيه رجالات الحكم الذاتي إلى رموز كرتونية والحكم الذاتي نفسه إلى سراب.

تشكلت مؤسسات الحكم الذاتي من المجلس التشريعي (البرلمان المحلي) والمجلس التنفيذي (الحكومة المحلية)، والأمانات العامة لمختلف الأنشطة فيما عدا السيادية، ويرأس كل أمانة أمين عام بدرجة وزير (ببروتوكولات) المنصب، دون أن يملك أي قرار، والأمثلة عديدة على ذلك.

كان من الممكن أن يصبح الحكم الذاتي أملاً في حل واقعي لتلك المشكلة، وبالتالي يتجنب العراق بعض ما حل به من نكبات، لكننا نعشق فن الفرص الضائعة ونبحث عن تلك النكبات.