ستالين سليمان_
لم يُضمد السوريون جراحهم التي خلّفها زلزال 6 شباط 2023 بعد، ليحل عليهم زلزال جديد مساء الاثنين، في العشرين من الشهر ذاته، ليفتح جرحاً جديداً في الجسد السوري المنهك أساساً منذ أكثر من عقد، حيث خلّف الزلزال الأخير، والذي كان مركزه في لواء إسكندرون، خلف انهيار أبنية جديدة في ريفي حلب وإدلب واللاذقية، مع ما رافق ذلك من ضحايا جدد تمت إضافتهم لسجل ضحايا الزلزال.
يعتقد الكثيرون بأن الكارثة الطبيعية، أي الزلزال، هي السبب الوحيد فيما عاشه السوريين من آلام بعدها، ولكن حقيقة الأمر هي أن الزلال كان سبباً في أن تطفو على السطح، ما كان مترسباً من فساد عانت منه سوريا منذ عقود، وذلك جرّاء السياسات التي اتبعتها، والتي لا تخدم إلا أصحاب البطون المتخمة، والمليارات المتكدسة.
إن حجم الدمار الذي خلّفه الزلزال، ما كان ليكون بهذه الضخامة لولا حجم الفساد المستشري في المنظومة القائمة، والذي يضاهي بحجمه حجم الدمار الذي خلّفه الزلزال، والذي جاء نتيجة السياسات التي تم تبنيها، والقرارات التي تم إصدارها في سوريا منذ عقود، والتي أتت تحديداً لنهب جيوب الغالبية العظمى المفقرّة من السوريين، لصالح قلة قليلة تعتاش على دماء تلك الغالبية.
منذ تبنّي السياسة الليبرالية في الاقتصاد السوري، وما تبعها من خصخصة ورفع الدعم عن المواد الأولية، باتت أبواب الفساد مشرعة في سوريا، حتى طال الأسس الهندسية للأبنية، التي من شأنها حماية القاطنين فيها، وذلك من خلال منح موافقات للمقاولين، تتضمن كافة شروط السلامة على الورق، دون أن تُنفذ أي من هذه الشروط على أرض الواقع، نتيجة غياب الرقابة.
هذه السياسات المتّبعة، وهذا الفساد المستشري في مسامات المنظومة القائمة، شكلا الأساس المتين لكل ما تعيشه سوريا اليوم، بدءاً من انفجار أزمتها في 2011، وصولاً إلى كارثة الزلازل اليوم، لذلك، فإن ما فعله الزلزال لم يتعدَ حدود كشف ما ظل مستوراً حتى اليوم، حيث يعتقد السوريون بأنهم كانوا يعيشون في منازل صالحة للسكن، وتستحوذ على كافة معايير الأمان، ولكن كارثة الزلزال بينت بأنهم كانوا يعيشون في منازل كرتونية لا يستفيد منها إلا ناهبيهم، الذين يتسترون بستار المقاولات، والذين يحتمون بحماية جهاز دولة فاسد، تخلى عن دوره كجهاز دولة، ليتحول بعدها إلى جهاز تنظيم النهب بين الناهبين على حساب المنهوبين.
فساد.. حرب.. عقوبات.. تقسيم
إلى جانب الفساد الذي تحدثنا عنه، هناك جملة أمور أخرى فاقمت المأساة التي عاشها السوريون جراء الزلزال، فالسنوات العجاف التي مرت على سوريا منذ انفجار أزمتها، وما تلاها من هجمات احتلالية عليها أدت إلى تضعضع أسس المباني، إضافةً إلى العقوبات التي يفرضها الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، لعبا دوراً رئيسياً في زيادة مأساة السوريين، فالعقوبات المفروضة على سوريا، عرقلت منذ البداية وصول المواد الأولية إلى سوريا، كما أثبت الزلزال زيف الحديث الذي كان يدور حول استثناء القطاعات الصحية من العقوبات، وخير دليل على ذلك، بيان وزارة الخزانة الأمريكية، الذي تحدّث عن (تعليق مؤقت) للعقوبات، للاستجابة لأعمال الإغاثة المرتبطة بالزلزال، فلو أن العقوبات تستثني منذ البداية القطاعات الصحية، فلم يكن هناك حاجة للقرار الأمريكي الأخير حول (تعليق مؤقت) للعقوبات.
إلى جانب هذا وذاك، لعب التقسيم؛ الأمر الواقع الذي تعيشه سوريا، دوراً رئيسياً في عرقلة إيصال المساعدات وفرق الإغاثة إلى المناطق المنكوبة، نتيجة رفض المتشددين فتح المعابر أمام إيصال تلك المساعدات.
جملة هذه الأمور، ضاعفت من معاناة السوريين تحت آثار الزلزال، لذلك فإن ما يعيشه السوريين من مآسي منذ وقوع الكارثة، لا يتحمل مسؤوليته الزلزال فحسب، بل كل من عرقل جهود تسوية الأزمة السورية والوصول إلى حل سياسي شامل لها.
السياسات التدميريّة مستمرة
على الرغم من هول الكارثة التي حلّت بالسوريين، إلا أن تجار الحرب وسماسرتها، ومعهم المتشددين في النظام، لم يستغنوا عن سياساتهم التخريبية، التي أحلّت بالسوريين ما حلَّ بهم، فلا تزال قوافل المساعدات تتعرض للمضايقات والتشليح على الطرقات، فضلاً عن منعها من الدخول إلى بعض المناطق، لا سيما في الأشرفية والشيخ مقصود بحلب، أما الجزء اليسير الذي يتمكن الناس من إدخاله، فإنه يتعرض للنهب والسلب من قبل “الحواجز” على الطرقات، أي أنه حتى الكوارث الطبيعية التي تخلّف مثل هذه الفواجع، لم تردع حيتان الفساد من ممارسة سلطتهم التخريبية.
ضف إلى ذلك، القرار الأخير الذي أصدرته وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بعد وقوع الكارثة، والذي يقضي برفع سعر مادة المازوت الصناعي إلى 5400 ليرة سوريّة، ما عرقل جهود نقل المساعدات من أماكن الاستلام إلى أماكن التوزيع.
أي أن الكارثة فتحت باباً جديداً من أبواب الفساد يدرُّ ذهباً على الذين لا هم لهم سوى مضاعفة الأرباح، حتى لو كان ذلك على حساب معاناة غالبية السوريين.
الاستفادة من التجارب المماثلة
تعتبر مناطق الجزيرة هي الأقل تضرراً من آثار الزلزال، وذلك بسبب بعد مركز الزلزال عنها، ولكن هذا لا يعني بأن المنطقة بمنأى عن مثل هذه الكوارث، ما يتطلب أخذ الاحتياطات، وفرض رقابة أكثر صرامة من قبل الإدارة الذاتية، لا سيما وأن المنطقة شهدت في الآونة الأخيرة موجة كبيرة من الإعمار، والتي تمت عن طريق مقاولي البناء، وقد رافق ذلك ضعف في الرقابة الهندسية على الأبنية، لذلك، فإن المطلوب هو فرض رقابة مشددة على هذه الأعمال، على أن يتم إجبار المقاولين على مراعات ظروف وشروط السلامة في الأبنية، لاسيما المتعلقة بمقاومة الزلازل، تحسباً لأي طارئ، خاصةً وأن المنطقة اليوم باتت ضمن ما يُعرف بخط النار، الذي يكثر فيه حدوث الزلازل.
التغيير ضرورة مُلحّة
إن السعي وراء إصلاح المنظومة القائمة يعد قبضاً للريح، حيث أن هذه المنظومة، ومن خلال ما اتبعته من سياسات، ساهمت بشكلٍ فعال في إيصال سوريا إلى ما هي عليه اليوم، كما أن حجم الفساد المستشري في هذه المنظومة، قلّص دورها في حياة البلاد إلى أدنى المستويات، ما يجعلها عاجزة عن التصدي لأي مهمة قائمة، مهما صَغُر حجمها، فما بالك بكارثة بحجم الفساد؟، فضلاً عن أن هذه المنظومة، ومن خلال ممارساتها وقراراتها اليومية، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، فقدانها للإرادة المطلوبة لإنهاء ما يعيشه السوريون من واقع مأساوي، منذ انفجار أزمتهم السياسية، وصولاً إلى كارثة الزلزال.
وأبعد من ذلك، فإن القرارات التي تصدر، والإجراءات التي تُتخذ، كلها تشير إلى سعي هذه المنظومة، ومعها المتشددين في باقي الأطراف المسيطرة، لإطالة أمد المأساة السوريّة، وعرقلة أي جهود تبذل للوصول إلى الحل الشامل في سوريا.
لذلك، فإن المطلوب اليوم، هو تغيير جذري في بنية المنظومة القائمة، يفضي إلى منظومة وطنية قادرة على حل كافة مشاكل السوريين، السياسية منها والاقتصادية الاجتماعية، وحتى الطبيعية.
ومفتاح هذا التغيير هو الإسراع بالحل السياسي الشامل، على أساس القرار الدولي 2254، الذي سيُنهي درب الآلام الطويل الذي خاضه السوريون على مدى 12 عاماً.
