أبو سالم

محمد عاطف (كاتب وشاعر مصري)-

إنه صديقي الظريف والذى يَكبُرني في العُمر بخَمسة عشرة عاماً، وما يَربُطني به من صداقة عِمادُها هو خِفة ظِل أبو سالم اللامتناهية، وطريقة تناوله لأحداث الحياة، وشَكْوَاه الدائمة مُتهكماً ساخراً من الحظ الذى لم يبتسم له مرة واحدة بالعُمر رغم أنه شخصياً أول المُتحالفين مع هذا الحظ السيئ ضد نفسه، سواء باستهتاره أو لا مُبالاته بما يقول أحياناً، فمنذ فترة بعيدة نسبياً وبعد وفاة زوجتي رحمةُ الله تعالى عليها، أصبح أبو سالم يزورني من حين لآخر يُجالسني ويُسامرني مُرفهاً عني ليُخرجني من حالة الحُزن، فقد كان يحكي لي مواقف مَرحة حدثت، سواء قديماً أو مُعاصرة، ومن ثَمَّ يسخر من رموز تلك المواقف، ويتناولهم بالنقد اللاذع والتجريح وهو يُقلدهم ساخراً.

وإن انتهى من سرد موقف ولم يجد من يسخر منه فيسخر من نفسه، وعلى الفور يتذكر أيام كان يرسب في الامتحانات، وكان عندما يعلم بنتيجة الرسوب، ويخشى من دخول البيت خوفاً من لسان والدته الذي كان مثل الكُرباج كما وصفه لي حيث أن والدته رحمها الله تحملت المسؤولية بعد وفاة أبيه وَرّبته هو وأخواته من جَريها وعَرق جبينها، فقد كانت تملك من السُخرية والنقد اللاذع ما كانت تمرر عِيشته وتتناوله بـ( الشَقَّوَرّة والنَقَّوَرّة ) وتجعله مبلولاً في هدومه بمعايرتها إياه، لعدم مُبالاته أنه أصبح شَيبة عَرعَر وسط أجيال ليست أجياله، لتكرر رسوبه حتى أنه لم يحصل على مؤهل متوسط ولم يُكمل تعليمه لاستنفاذه مرات الرسوب، وبعدها افتتح كُشك سجاير وجرائد ومجلات، وبعد مُضي فترة من الزمن وفي أحد الأيام اتصل صديق وأخبرني أن زوجة أبو سالم توفت عليها رحمة الله فذهبت إليه مُهرولاً وقمت بمشاطرته الأحزان من مراسم دفن وعزاء وزيارته من حينٍ لآخر كما كان يُقاسمني هُمومي سَلفاً، وبعد انقضاء فترة من الوقت وجدت أبو سالم يُخبرني أنه يُريد البحث عن زوجة تُشاركه ما تبقى من العُمر حيث أن أولاده مُتزوجون ومُستقلون بحياتهم ويعيش هو بمفرده بالمنزل ويخدم نفسه، فمكثنا فترة نَبحث عن زوجة تُناسبه ولم نهتدِ، ومرت فترة وإذا به يتصل بي تيلفونياً يُخبرني أن أحد الوسطاء رشح له سيدة قد تُناسب ظروفه وتَصغُره بالعمر عشرين عاماً، وعليه أن يُبادر بالذهاب لأهلها قبل أن يتقدم لها أحد، ويُريد مني الذهاب إليه لنتوجه سوياً لزيارة هؤلاء الناس، حيث أن الوسيط أخبرهم وهم يُرحبون ومُتقبلون، ويتوقف الموضوع على آلية إتمام الزواج، فقال لي عليك أن تأتى معي بعد صلاة العشاء لكي أراها وتراني وأيضاً لأن رأيك يهمني بالدرجة الأولى في هذا الموضوع، وبالفعل ذهبت له بالموعد واتفقنا على (إشارة) مُعينة أنها لو راقت له سَيُخبرني ومن ثَمَّ أتحدث وأُقدمه، وبالفعل ذهبنا فوجدنا أُناساً طيبين وبُسطاء وجلسنا مع أبيها ثم دخلت العروس المُرتقبة، سيدة ريفيه بسيطة تتمتع بلمسة من الجمال الريفي الطبيعي والهادئ، قدمت لنا الشاي، ثم طلب منها أبوها أن تضع الصينية وتجلس ولا تغادر الغرفة، والتقطت أنا (إشارة) أبو سالم فوراً فقلت لوالد العروس يا عم الحاج أخي أبو سالم يريد أن يتشرف بِنَسبك ومُصَاهرتك، فنظر الرجل لأبو سالم شرفتنا ونورتنا وآنستنا ثم نظر إليّ، أسعدتنا يا أستاذ عاطف، وأردف قائلاً، عموماً لو أبو سالم فعلاً محظوظ ستكون ابنتي من نصيبه لأنها شاطرة و(شملولة) من أول حَش البرسيم للمواشي والحِلابة، فقاطعه أبو سالم مُبتسماً وبصوتٍ خفيض كله سخرية يا عم الحاج أنا راجل على الله لا أملك حَقلاً ولا بهائم، فأضاف الرجل دا بنتي (مالهاش أُخت) فى الخَبيز وأخذ يعد على أصابعه، دي بتعجن وتقَرّص وتبطط وتخبز وترمي في الفرن دون مساعدة من أحد، ورغيفها عُمره ما يتلعبط، فرد أبو سالم ساخراً وبطريقته ياعم الحاج ليس عندي فرن ولا أُخزن دَقيقاً وليس على سَطحنا وَقُوداً، ولا نحتاج خبيز لأننا نأتي بالعيش من (الطابونة)، فأضاف والد العروسة دا بنتي شاطرة في تربية جميع أنواع الطيور من أول الحمام لغاية الرومي، فرد أبو سالم وبنفس اللهجة السابقة، يا عم الحاج إحنا لا نُربي أي نوع من الطيور أنا بشتري فراخ مُجمدة من الجمعية الاستهلاكية، فتوقف الرجل وقال هيَّ مش عاجباك ولا إيه، فرد أبو سالم على الفور ولم يتخلّ عن مِزاحه الذى يُطيح بحظه، فقال يا عم الحاج أنا عايز بنتك علشان لما أموت وأنا طالع في النعش تِرقع ورايا صوتين جامدين وتُلطم على وشها لطمتين حلوين وتقول يا سبعي يا جملي يا مهنيني ياللي حشرب المُر من بعدك فتعمل لي قيمة وأهمية وسط المجتمع والناس…

/ سلسلة ذكريات/