تل الصبي الأبيض… تجريف وتدمير للتراث الإنساني

إعداد/ حسام إسماعيل-

تعتبر دراسة الطبيعة ونمو الاستيطان البشري عبر العصور في وادي نهر البليخ من البحوث الهامة التي تتناول الإنسان، وقصة مشواره الحضاري الطويل في هذه المنطقة، ويتم تجميع تلك المعلومات من خلال الاكتشافات الأثريَّة التي تم العثور عليها في تل الصبي الأبيض أو من خلال العديد من بعثات المسح الأثري.

يقع هذا التل على بعد 80كم شمال مدينة الرقة على امتداد نهر البليخ، وبالقرب من أحد منابع هذا النهر 20كم إلى الجنوب من قرية “عين العروس”، وعلى بعد ستة كيلومترات إلى الجنوب الغربي من ناحية سلوك المحتلة على تخوم بلدة حمام التركمان التابعتين لمقاطعة كري سبي/ تل أبيض المحتلة، وتعرضت التلة للتجريف من قبل جيش الاحتلال التركي مع عدد من المواقع الأخرى التابعة لمقاطعة كري سبي المحتلة.

 البِعثات الأثريّة كشفتْ عن تاريخ “تل الصبي الأبيض”

وبواسطة بعثة أثرية تابعة للمتحف الوطني الهولندي في مدينة ليدن بدأت الحفريات الأثرية في خريف عام 1986، كما التحق بهذا المشروع باحثون من جامعات ومعاهد علمية من: هولاندا ـ فرنسا ـ أمريكا ـ ألمانيا، بالإضافة إلى ذلك فقد تم إنجاز عدد كبير من الكتب والمقالات تتناول الاكتشافات والحفريّات الأثرية وتقول أنَّ تل الصبي الأبيض كان مأهولاً بالسكان طوال 800عام دون انقطاع، حيث شكلت تجمعاً سكانياً، وذلك ما بين (5800ـ 5000) قبل الميلاد، بالإضافة إلى ذلك فقد تم التعاون مع (معهد الآثار الشرقيَّة بشيكاغو الأميركية) لدراسة سطح الأرض والتضاريس وعلاقتهما بالاستيطان البشري، ويشمل هذا البحث نقاطاً عديدة أهمها الطرق القديمة، وأقنية الري، والترسبات، والمستنقعات، وكيفية استثمار الأرض… إلخ.

 تمتد جذور القرية إلى عصور ما قبل التاريخ وتقع على مساحة أربعة هكتارات، وتتألف من بيوت كبيرة مُخصصة للمعيشة، ويتألف كل بيت من 15 غرفة أو أكثر.

وقد كانت هذه المساكن محاطة بأشكال معمارية دائرية تستعمل لتخزين الحبوب والمحاصيل الأخرى، كان سكان القرية يزرعون القمح، والشعير، والخضروات، والمَحاصيل الأخرى، وكانوا يربون الأغنام والماعز والحيوانات التي يصطادونها، وكان الفخار مستعملاً بشكل واسع ويُصنع محلياً، وغالباً ما كان منقوشاً او مزخرفاً، وكل أنواع المنتجات المُستوردة كان يتم الحصول عليها عن طريق نظام “المقايضة”، وكانت تُجلب من أطراف سوريا البعيدة، وتركيا والعراق، قبل هذه الفترة التاريخية حتى 7000 قبل الميلاد كانت منطقة وادي البليخ مَسكونة من قبل مزارعين ورعاة عاشوا في قرى ذات كثافة سكانيَّة قاموا بعدة تغييرات مهمة، أبرزها اختراع الفخار، والزيادة في الاعتماد على قطعان المواشي، مما ساعد في نشوء أولى التنظيمات الإدارية، وتطور النُظم الاجتماعيَّة.

 مَوقع هام للإمبراطوريّات القديمة

ويُقدر علماء الآثار بأن القرية هُجرت في الألف الخامس قبل الميلاد لأسباب لم تُعرف بعد، ولعدة آلاف من السنين تُركت هذهِ القرية للقدر حتى بداية القرن 13 قبل الميلاد لتعود الحياة إلى هذا التل خلال فترة (العصر البرونزي المتأخر) حوالي 1250 قبل الميلاد بعد أنْ أصبح تل الصبي الأبيض مقراً للحاكم الآشوري (تاميتا) وحاشيته، فقد أصبحت هذه المدينة الصغيرة موقعاً عسكرياً محصناً بما فيها قصر الحاكم، وكان الهدف من تحصينها حماية وإدارة الجهة الغربية القاصية من الإمبراطورية الآشورية، وتنظيم مرور القوافل القادمة من وإلى (آشور)، وكذلك السيطرة على الأراضي الزراعية المجاورة.

النصوص المكتشفة والمكتوبة باللغة المسمارية تشير إلى أن قوافل البضائع، والمبعوثين العسكريين كانوا يحبذون المرور بتل (الصبي الأبيض) في طريقهم إلى آشور، وتم العثور على معمل كبير لصناعة الخمور والبيرة، كما تَدل مجموعة من النصوص المسمارية عن نشاطات السُكان اليوميَّة في المَوقع، ويُساهم في زيادة تلك المعلومات الفخار والأدوات الحجريَّة، والمدافن، والحلي، واللقى الأثرية الصغيرة.

دولة الاحتلال التركيَّة نهبت المواقع الأثرية…!

وبعد أن سرقت دولة الاحتلال التركي وتركت المرتزقة التابعين لها يعيثون فساداً في الأماكن الأثرية في كل من عفرين والباب وجرابلس، توجهت إلى أعمال مماثلة في كل من سري كانيه، وكري سبي/ تل أبيض بعد عدوان التاسع من شهر تشرين الأول من عام 2019، لاستكمال ما خططت له، حيث عمدت جرافات المُحتل التركي إلى تجريف تل الصبي الأبيض مع عدد من المَواقع الأثريَّة الأخرى كـ(تل صهلان الأثري الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد بالقرب من قرية عين العروس)، ومدينة الفار التي تُعتبر أحد أهم المعالم الأثرية والحضارية في المنطقة.