حلب/ رامان آزاد ـ
من عفرين يبدأ سور حماية الحدود السوريّة، ولم يكن لأنقرة أن تشنَّ العدوانَ على سري كانيه وكري سبي، لولا الحدث العفرينيّ، فاستثمرت عدة عوامل للعدوانِ، اعتباراً من العلاقةِ مع موسكو واستغلالِ الصمتِ الدوليّ ومجانية المعركة باستخدام المرتزقة السوريين، وكانت عفرين الآمنة اختباراً سياسيّاً وأخلاقيّاً فشل العالم في اجتيازه، فيما نجحت فيه عفرين عندما حققت معادلة الأمنِ والاستقرارِ واحتضنت بإمكاناتها الذاتيّة النازحين السوريين من مختلفِ المناطقِ.
النوستالجيا العثمانيّة واستثمار الدين
العدوان على عفرين أكّد نزعة حكومة أنقرة على نزعتها القومويّة الفاشية، وأظهر حقيقة نواياها من التدخل في الشأن السوريّ، وتجاوز صفرية المشاكل التي أعلن عنها أحمد داوود أغلو في مشروع التحوّل التركيّ (العمق الاستراتيجيّ)، إذ جمع بين ميراث العثمانيّة الذي تفاخر بأمجاده والتقاليد الأتاتوركيّة، كان واضحاً النوستالجيا التركية للحقبة العثمانيّة واستخدام القوميّة كعوامل محرّضة، وقال أردوغان خلال كلمته في الاجتماع السادس لحزب العدالة والتنمية بمدينة أفيون قره حصار في 17/2/2018 “إنّه رغم تراجع مساحة الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها من 18 مليون كم2 إلى 780 ألف كم2 خلال العهد العثمانيّ؛ فإنّهم يحمدون المولى عز وجل على هذا ويصبرون”. وأعرب أردوغان صراحةً عن الحنين إلى الحقبةِ العثمانيّة والرغبة باحتلال أراضي الجوار؛ بقوله: “أولئك الذين يعتقدون أنّنا محونا من قلوبنا هذه الأرض التي تركناها وسط الدموع قبل قرن؛ مخطئون”.
مخططُ أردوغان اختلفَ عما نظّر له أحمد داوود أوغلو، ما استدعى إقالته، كما طال الإقصاءُ كثيراً من السياسيين والعسكريين بعد محاولة الانقلاب المزعوم في 15/7/2016.
وفي محاكاةٍ للسلوكِ العثمانيّ الذي اعتمد على الدين لخدمةِ الدولة والعسكرة، سخّرت تركيا كلّ إمكانياتها العسكريّة والماكينة الإعلاميّة ووضعتها بخدمة المجهود الحربيّ، وانضمت وزارة الشؤون الدينيّة للحرب فعكف 90 ألف مسجدٍ على قراءة سورة الفتح والدعاء لجيشِ العدوان، وقال أردوغان خلال مشاركته بحفل افتتاح نفق قاسم باشا بإسطنبول 27/1/2018 مشيراً إلى وحدات حماية الشعب قائلًا: “إنّه تنظيمٌ إرهابيّ لا دينَ له ولا ثقافةَ، ولا يعرف الله”.
من محاربةِ الإرهابِ إلى استثماره
تدرك الأطرافُ الدوليّة والإقليمية ذات العلاقة بالأزمة السوريّة أنّ حججَ أنقرة للتدخل العسكريّ بعفرين واهية ومفبركة، وأنّها لم تشكّل أيّ تهديدٍ للأمنِ القوميّ التركيّ، بل كانت أنقرة دائماً مصدر الخطر. إذ دعمت فصائل الإرهاب واستقدمتهم ودرّبتهم ومرّرتهم عبر الحدود، ودفعت الإرهاب لاستهداف عفرين، وواصل الجيش التركيّ لسنواتٍ تعدياته عبر الحدود بإطلاق النار وقلع الشجر، وعطلت تركيا مشاركة الكُرد في مباحثات الحلّ المزمعة.
تعبيرُ موسكو عن قلقها من العملية العسكريّة التركيّة، ودعوتها لضبط النفس، كان مراوغةً سياسيّةً، وينطوي على مجانبةِ الحقيقةِ، فهي تعلمُ يقيناً أنّ المزاعم التركيّة افتراضيّة، بسبب معاينتها الوضعَ على الأرضِ عبر وجود وحداتِ المراقبة الروسيّة بعفرين، إذ لم تتلقَّ أيّة شكاوى عن خروقاتٍ للأمنِ التركيّ عبر الحدودِ، وتعلم أيضاً حالة الأمنِ والاستقرارِ بالمنطقة، وأنّ أنقرة تستخدم في عدوانها إرهابيين ومرتزقة، فقد نقلت العشراتِ منهم عبر بدعة مناطق خفض التوتر، وانتقلت موسكو من محاربة الإرهاب إلى استثماره لتحقيق مكاسب على حساب عفرين.
صُدِم الكرد بالصمت الدوليّ، بعد جهودٍ كبيرةٍ بذلوها بالتعاون مع التحالفِ الغربيّ والسمعةِ الطيبةِ التي حازوها، ولم يحرك العالم المتحضر ساكناً إزاء العدوان التركيّ الوحشيّ والجرائم المرتكبة والتي تضمنت تمثيلاً بجثامين الشهداء وقتل الأطفال والنساء وتدمير البيوت والمنشآت الحيويّة، رغم معرفته زيفَ الدعاية التركيّة وأنها تقود الإرهاب وتمارسه ، فكانت عفرين قرباناً لإرضاء أنقرة.
الإرهابُ رسائل تركيّة للعالم
ذكرت صحيفة “إندبندنت” البريطانيّة، في مقال نُشر في 8/2/1/2018 قالت فيه إنّ الدولة التركيّة “جنّدت” مرتزقة داعش، للمشاركةِ بالحرب على عفرين، ونقلت عن مرتزقٍ سابقٍ بداعش قوله إنّ تركيا درّبتهم للهجوم على “أهداف كرديّة في عفرين”. المسلّح الذي اكتفت الصحيفة بذكر اسمه الأول (فرج) أكّد أنّ “غالبيّة عناصر الفصائل التي تقاتل إلى جانب تركيا ضدّ وحدات حماية الشعب ينتمون لداعش”، وقد تلقوا تدريباتٍ في معسكرات خاصة بتركيا لاتباع “أساليب وتكتيكات جديدة، بعيداً عن السيارات المفخخة والهجمات الانتحاريّة”. وارتكب العدوان عدداً من المجازر في عفرين استشهد فيها الأطفال والنساء وكبار السن، مثل مجزرة كوبلة المروّعة 21/1/2018 ومجزرة يلانقوز 26/2/2018 وترنده 8/3/2018 ومشهد التمثيل بجسد الشهيدة بارين كوباني في 30/1/2018. ولم يتورع المرتزقة عن توجيه رسائل التهديد بالنحر والقتل، ولعل أنقرة أرادت عبر المشاهد الدمويّة أن تبعثَ برسائل للعالم وتقول هؤلاء من نقودهم في الحربِ على عفرين، وإن لم تصمتوا سنفتح باب الهجرة إليكم، وتوالت المشاهد من تدمير للبنى التحتيّة والمرافق العامة والبيوت فوق رؤوس ساكنيها وفرض الحصار الجائر ومن ثم خروج طوابير الأهالي في ظروفٍ جويّةٍ سيئة للتنديد بتلك الممارسات عليهم حتى كان يوم التغريبة وهجوم الجراد على مدينة عفرين ونهب المملكات العامة والخاصة، ورغم استمرار الاحتلال والتغيير الديمغرافيّ والانتهاكات والمعاناة بكلِّ أنواعها التي يلاقيها الأهالي في جغرافيا التهجير بكلِّ أنواعها لا زالت المواقف الرسميّة تبدي “تفهمها للمخاوف الأمنيّة التركيّة” فصمت العالم مرة ثانيّة عندما بدأت أنقرة العدوان على شمال سوريا في 9/10/2019 والموقف الأمريكيّ كان تكراراً للموقف الروسيّ في عفرين، إنّه التكاذب السياسيّ بلا حدود.