No Result
View All Result
المشاهدات 1
ريبر هبون (أديب وناقد)-
المعرفيون يرون المعرفة رمزاً يليق بالمعرفي، فهم يرون أن سياسة القطيع وألوهية القائد هي إحدى عاهات الحكم، حكم وإدارة المجتمعات، ويرون أن السبيل لتحويل البشر إلى رموز حية حقيقية هو تطبيق نهج المعرفة والحب لأجل الوجود، حيث كانت المجتمعات القديمة ترى في القائد الإله أو نائب الإله على الأرض، فلقب أمير المؤمنين يعني أنه نائب رسول الله على الأرض، ولقب البابا كان دلالة لنائب المسيح على الأرض، فكانت إدارة الشعوب ولزمن طويل بيد هؤلاء، ويرجح أن أسباب تخلف الشعوب والمجتمعات وعزلتها كانت نتيجة الفساد والاستبداد وتكريس الجهل والسلطة القامعة باسم الدين، ثم تحول منظرو نظريات الثورة والإصلاح إلى مستبدين.
فالثورة على رموز سلطة الدين كانت ضرورة لانتقال المجتمع إلى حالة مدنية أرقى، لكن الرموز العلمانية التي حكمت ما بعد الثورات وقعت أيضاً في ذات المطب، فبدأ طور حكم المجتمعات باسم القومية والاشتراكية الأممية وانتقلت صفة التقديس الثيوقراطي للقادة الذين حكموا حينها، وبدا الاستبداد يأخذ المجتمعات إلى طرق مسدودة، تجسدت جلية في مرحلة الحربين العالميتين وظهور قوى ديكتاتورية في الغرب، وانتقلت هذه الحالة إلى الشرق والعالم العربي والإسلامي كنتيجة تسلط القوى الصناعية المهيمنة على تلك الشعوب.
إن الانتفاضات نتجت عن نموذجات ديمقراطية تعددية في أوروبا ووصولها إلى العالم العربي عبر ما يسمى بثورات الربيع، فمحاولات إلباس المجتمعات أثواب العبودية، وإن تعددت أشكالها، جهالة مكرَّسة لتصفية قيم الإنسان المعرفي واستنزاف طاقاته، وتبدو الفرص مواتية أكثر لبروز المعرفيين، سواء في السلطات أو الإدارات أو المؤسسات وإحياء قيم الحب والمعرفة لأجل حماية الوجود كدعوة للإنسان الجديد لينعم بأسباب الرفاهية والتقدم الروحي والمادي والفكري.
فالتأثير السلبي الذي أحاقه القادة الرموز من خلال تشدقهم بالثورة وادعاء حمايتهم لدولهم من التقسيم والفتن جعل المجتمعات تعيش داء الخوف والانحلال المعنوي الروحي، مما ازدادت معه حاجات دك حصون هؤلاء الجهلاء القتلة وناهبي الشعوب لأنهم شكلوا سوراً يحول بين وصول المجتمعات إلى المعرفة، بتسترهم بروح الحفاظ على المنجزات والمكتسبات الشخصية وادعاءهم أنها مكتسبات قومية، فقد أعاقوا إرادة المجتمعات من بلوغها درجات التقدم والحضارة وممارسة الديمقراطية واكتساب المعرفة وبناء مجتمع الوجود، فقد استخدموا الدين كمؤسسة تبيح لهم شرعنة الفساد والقتل، إضافة لتحويل مؤيديهم كمرتزقة فتحول دورهم لخدمة الفئة القامعة الفاسدة ولمحاربة ذوي الأصوات الثائرة المحرومة.
وموقف المعرفيين واضح من هؤلاء، والطريق الأمثل لزوال القادة الرموز تبدأ من وقفة المجتمعات المعرفية عموماً في طريقهم ومحو ثقافة التعامي في رؤية الحقيقة، وإنهاء مفهوم القداسة ومن إيضاحهم لحقيقة ثقافة الاختلاف وتجاذب الآراء والتنقيب الدائم للوصول إلى أسس راقية لإدارة المؤسسات، فالمعرفيون وأصحاب الفكر والأدب والفن أقدر على المسؤولية كونهم يعيشون كأبسط فرد في كافة ميادين الحياة المختلفة، فهم أبرع في فهم منظومة الأخلاق، وعلة رمزية القائد عائدة إلى صفة التقديس الثيوقراطي من حيث أن القائد قديماً كان يرمز بالآلهة كما في شخصية كلكامش نصفه بشر ونصفه آلهة حسب الأسطورة، وشخصية الفرعون المتأله، حيث بقي للقائد مكانة مقدسة أدت لترسيخ مفهوم التبعية والطاعة العمياء والخضوع التام، فشيوع هذه المفاهيم وتجذرها من خلال الدين والخطب التي كان يلقيها الأئمة على رؤوس مطأطئة لا تفكر ولا تتدبر بل تستسلم لأحد أبواق السلطة القامعة المتمثلة بخطيب الدين وإمامها.
وكانت الإلهة الأم تأخذ صفة القداسة، وكان الرجل يرمز بالسلطة في ضرورة أن تمتثل الزوجة له امتثالاً تاماً، حيث أن صفة الرمز بقيت ليومنا هذا حية تحظى بصفة أشبه بمكانة الآلهة، فسلطة السلطان العثماني تأخذ الحيز المطلق من المكانة الدينية المطلقة التي تلتف حولها طغمة من رجال الدين يفتون ويخطبون في الجوامع والمساجد باسم السلطان حتى وقتنا الراهن، كما في عهود الأباطرة والمماليك والقياصرة، حيث كانت لهم السلطة المطلقة المقدسة المدعومة بالكاهن أو البابا أو الشيخ. فترسيخ ذهنية الطاعة والخوف لدى الناس كرست التبعية ومفاهيمها على المجتمعات ولعهود متتابعة وطويلة، حيث تشربت هذه المجتمعات من هذه القداسة والطاعة حيث غدت صورة مجتمعاتنا عموماً، الإسلامية منها وحتى العلمانية. وبوجود المعرفيين في مراكز الحكم وتداول السلطة وإبداء النقد الصارم للحكام والإدارة التعددية تنتفي أحادية الحكم وشموليته، ويتلاشى الخوف وكذلك النظرة العدائية المتخلفة من قبل السلطات لشعوبها.
إن هذا الصراع الرهيب والقديم بين أصحاب السلطات فيما بينهم من جهة وبين السلطة والشعب المتمثل بمعرفييها من جهة أخرى، أدى إلى انتشار العنف والتفسخ وإقامة بنى جديدة شاعت من خلالها مفاهيم الإرهاب والاغتيال السياسي والتعذيب الجسدي الممنهج ضد ذوي العقول ورموز المعرفة وتطور الوجود، ولأجل خدمة كبار الجشعين من أصحاب المال ودعاة نشر العنف.
المعرفيون يجدون أن إدارة الحياة والمؤسسات تعتمد على المعرفة، والمعرفة تعلِّم المسؤولية التي هي فن قيادة المجتمعات نحو سبل الحياة الفاضلة والرفاهية المستدامة والتقدم المستمر، وذلك بأن تتخلص المجتمعات وإداراتها من الذهنية التقليدية في تعاطي السلطة والحكم، فالوثنية الحاكمة أرهقت جداً الشعوب وجعلتها أشبه بالقطيع، حيث لا تفكير أو تطوير أو بناء بل جهالة متكالبة متتابعة في حياة الشعوب وتأخر دائم عن ركب الحضارة المعرفية والتقدم القيمي، فوجد القادة الرموز في الشعارات التخديرية وسيلة ناجعة للبقاء في الحكم مهيمنين، يدين لهم المجتمع وكأنهم آلهة على الأرض وتطيعهم الغالبية المازوشية بضرب من الجهالة وتفادياً للبطش المتمثل بأجهزة المخابرات، وهنا تكمن وظيفة المعرفيين داخل هذه البنى المجتمعية لتتخلص من هذه النظرة التبعية المزرية بالتعاطي مع الحياة والإنسان، من خلال ترسيخ ثقافة الحب المتمثلة بالمحبة بين أبناء الوجود؛ الوطن ومنها للوجود الكبير خلال بناء العائلة الطبيعية. فما القادة الديكتاتوريون إلا انعكاس لخلفية الأفكار البالية التي تقنعت بها المجتمعات مع تتابع عهود الاستبداد والغطرسة، ووظيفة المعرفيين في المجتمعات هو أن يعملوا على ترسيخ نهج الحب في الوجود في ظل نداءات تطالب بحقوقها في الإدراك والرفاهية والإبداع، فلا يمكن أن تتحرر العقول والأرواح من بطش السلطويين إلا باستبدال ذهنية الطاعة والامتثال الصوري بفلسفة التوحد بالوجود في خضم المحبة الواعية، والمعرفة في طلب الأفضل والأنجع لأخذ السبيل النير للحياة الخالية من كل تبعية أو استسلام، نحو المدنية والبناء.
فالحب في ضوء فلسفة الحب والوجود معرفة ليس عاطفة ذاتية إنسانية بل الحب هنا هو الوجود الذي يمثل نبض كل الكائنات على ظهر الكوكب، فهو الشجرة التي تولد منها كل فروع الحياة الطبيعية والإنسانية.
والمعرفي هو باني الحضارة والعامل على جعل المعرفة الحقيقة الخالصة في الوجود ومن خلالها تنتفي فجوات الحياة وثغراتها التي تتباين في التفكير الإنساني.
No Result
View All Result