تؤمن مطحنة شبك حاجة المنطقة من الطحين “الدقيق” والبرغل والعدس على مدى خمسين عاماً، ولا تزال تُقدّم خدماتها لأهالي الناحية وقراها وتوفر عليهم الكثير في ظل ارتفاع الدولار أمام صرف الليرة السوريّة مما دفع بالأهالي ليعودوا للصناعات الغذائية التقليدية.
مطحنة شبك تقع في ريف ناحية جل آغا تعود لعائلة من أصول حلبية وفدت منذ عام 1937م لتستقر في ريف جل آغا الغربي؛ بدأت عائلة عبد الرزاق حج أمين مرشحة بعملها بالمطحنة منذ عام 1969م بشكل فعلي.
يُراقب من بعيد
يستذكر الحاج عبد الرزاق أمين مرشحة 65 عاماً أب لابنة وحيدة من قرية شبك في ريف ناحية جل آغا الغربي، مبتسماً أياماً مضت كيف كان والده يطلب منه الصعود لسطح المطحنة التي حملت اسم القرية لمراقبة مفارق الطرق الفرعية للقُرى، ويراقب توافد أصحاب الطحن وهم يحملون أرزاقهم على ظهور حميرهم ليطحنوها؛ فيعلق مردداً بلهجته المحلية “جاء الشغل والخير” عند رؤيتهم من بعيد حسب تعبيره.
بخدمة الجميع
مطحنة تعاقبت أجيالٌ على المجيء إليها وأكلت من طحنها “كردٌ وعرب ٌوسريان وأرمن” من كافة القرى والبلدات من ديرك إلى تربه سبيه؛ تخدّم وتغطي احتياجات الأهالي من الطحين والبرغل والعدس والسميد والفريكة هذا ما قاله مرشحة في حديث خاص لصحيفتنا “روناهي” وهو ينفض غبار الطحين عن وجهه ويديه ليتابع: “جئنا من حلب منذ كان جدي شاباً في السابعة عشر من عمره؛ وتنقلنا بمطحنتنا من الحسكة إلى الدرباسية ليستقر بنا المطاف في ريف جل آغا الغربي”.
ولا تقتصر خدمات المطحنة للأهالي فقط، وقال مرشحة: “لدينا آلة لجرش وطحن المواد العلفية للمواشي من شعير وذرة صفراء وقمح”.
هذا وقد أوضح مرشحة بأنّ لكلّ آلة في المطحنة اختصاص، فآلة طحن الطحين تختلف عن آلة جرش العدس، والبرغل المقشور يختلف عن البرغل العادي، وهناك غربال كهربائي يتم فيه الفرز والتنظيف، وتابع الحاج قائلاً: “المطاحن مرت بأطوار حتى وصلنا لهذا الشكل الآلي”.
وعن طاقة المطحنة الإنتاجية تحدث عبد الرزاق حج أمين مرشحة قائلاً: “نطحن في اليوم ما يقارب 350 كيلو غرام من الطحين في الساعة عدا عن المواد العلفية”.
أسعارها أرحم من السوق
وعن غلاء الأسعار الذي جعل الأهالي يقصدون المطحنة وبكثرة هذه الأيام تحدث سمير عبدو 60 عاماً من قرية سيكركه الذي قال: “غلاء الأسعار في الأسواق عاد بنا للصناعات التقليدية القديمة التي لا تُعد مُكلفة مقارنةً بأسعار السوق؛ فحتى الخبز زاد سعره ونعاني من عدم جودته أحياناً فنلجأ لما ذخرناه من مواسمنا”.
وعن آلية الجرش وتجهيز القمح للطحن شرح عبدو قائلاً: “بعد سلق القمح من النوع القاسي نقوم بطبخه وتنظيفه وجلبه للمطحنة نبلله بالماء لنحصل على لون برغل ذهبي ثم نبدأ بتفريغه في الآلات كلٍ حسب الصنف الذي يريد”، ليتابع “البرغل المنزلي أطيب وألذ من برغل السوق لأنّه نضج أثناء السلق بشكلٍ جيد”.
وعن أسعار الطحن وهل للمطحنة نصيب من موجة ارتفاع الدولار والغلاء قال عبدو: “أتردد لهذه المطحنة منذ خمسة وثلاثين عاماً لم أشعر بأنّ أسعارهم مرتفعة للحد الذي ينفر منه الناس، زيادة طفيفة لا تغطي لوازم تصليح المطحنة لأن طحن كل 32 كغ ونصف من القمح بـ 1000 ليرة سوريّة”.
ملتقى اجتماعي
تربطه علاقة حميمة بأهل المنطقة “فالجميع أصحاب رزق ويساعدونني بحمل الأكياس ووضعها بآلة الجرش” لهذا قلَّ ما يستعين بعمال غير أيام المواسم وضغط العمل؛ فالجميع يتعاونون معه كما أوضح المرشحة.
ولا تُعتبر هذه المطحنة الوحيدة في المنطقة لكنّها الأقدم والأشهر كما قال صاحبها: “شهدت قصصاً وأسراراً وحكايات باح بها أصحابها وهم ينتظرون في طوابير الانتظار دورهم في الطحن”.
وأشار مرشحة لكونها مقصداً للجميع لعبت دوراً هاماً في تقوية العلاقات الاجتماعية والأسرية من خلال تعارف الأهالي على بعضهم وتبادلهم للأحاديث، “وقد كتبوا أسمائهم على أكياسهم خشيةً أن تختلط مع غيرها نتيجة الازدحام وللنساء ولأهالي القرى البعيدة الأولوية في الطحن فهذا عُرف لا يمكن تجاوزه، كان ينام صاحب الطحن يوماً كاملاً ينتظر دوره وأمي تخبز لهم وتحضّر الطعام”.
وعن أعمق العلاقات التي ربطتهم بأهل المنطقة “كان لوالدي صديق يهودي من مدينة قامشلو يعمل حداداً صنع له سوراً لعتبة باب بيتنا كتب عليه تاريخ مجيئنا لهذه القرية 1937م”.
ليتابع عبد الرزاق حج أمين مرشحة توفى أبي وصديقه اليهودي لتبقى هذه اللوحة ذكرى جميلة ولوحة رائعة من لوحات التعايش السلمي والتسامح في شمال وشرق سوريا.
مطحنة غنية بالذكريات يتعالى منها صوت الحنين لماضٍ يتجدد مع كلِّ كيس قمح يدخل رحمها.