سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

هديتي لكم

أزهر أحمد –
شدّني الفضول لأعرف بِمَ يفكر ذاك الرجل؛ الجالس على كرسيه الحديديّ الصغير دون مسند ظهر، ويزداد انطواؤه على نفسه, آثار ظلم السنين بادية على محياه، يقلّب عوداً صغيراً بين أصابعه، وينقش به الأرض أمامه، لكن بحركات غير متوازنة، كأنما يصبُّ جام غضبه على ذاك العود الصغير الذي لا حول ولا قوة له، فيكسره ثم يهمس لنفسه بصوت مسموع :هديتُكِ موجـودة نامي قريرة العين، لا تحزني ابنتي، نامي أرجوك.
وعندما دنوت منه حدثني: يا ابن أخي انتابني الحزن مرّةً أخرى وأنا أسمع ككلّ مرّةٍ صوتَ سيارة الإسعاف التي مرّت الآن، نعم كعادتها عوّدتنا أن تحمل لنا أعزاء يغادروننا بأجسادهم, لم تأتِ لنا سوى بالحزن، أخبار أحباء يتألمون تارة، ينزفون تارة، وهم يتقلبون، يضعون أيديهم على جروحهم، يتنفسون الصعداء يبتسمون, وهم يرفعون إشارات النصر، ومنهم من يودعوننا، يرحلون إلى ملكوت الله تاركين جسماً طاهراً وأمنية.
يا ابن أخي حين اسمع صوتها لا أجد نفسي إلا مسرعاً، أركض، أتعثر، أنهض، وعندما أصل إلى سيارة الإسعاف أصرخ من دون إرادتي: من هم أرجوكم ماذا جلبتم لنا هذه المرة.
ذات مرة نزل ثلاثة أشخاص من السيارة فتح أحدهم الباب مســرعاً وحمل مع رفيقه نقالة، برز طرف وزند من تحت غطاء يكسو جريحاً، يد أوحت نعومتها أنها لفتاة، يد تلونت بالدم واحتضنت وردة حمراء لا فرق بين لونها ولون الدم المراق حولها، وبعض الدماء تجمدت على رؤوس أصابع صغيرتي، واليد اليمنى لم تزل تقبض على مقبض السلاح.
اللوحة الحمراء، حقيقة رواية لا يفهمها سوى الأوفياء، إنها ملحمة وليست ميثيولوجيا، أراد الأوغاد رفع يديها عن سلاحها، لكنها بقيت مضمومة، اليدين مضمومتين على وردة وزند بندقية. وصوت يمتزج بين أنين حزين وبشارات فرح، أرجوكم إنها هديتي.
وماذا بعد ذلك عم شيخو؟ ويردف بكلمات جريحة وعنفوان صارخ: كانت ابنتي شيرين هي من تتهيأ للارتقاء إلى السماء، الأعصاب متشنِّجة، واليدان متشنجتان، بريق لم أعرف مثله يلتمع في حدقتيها.
زاد العم شيخو من شدة قبضته على عصاه لتصدر صوت التكسُّر، تابع كسر العصا وأردف: ابنتي… لا….بل رفيقتي شيرين بقيت يومين قبل أن تودعنا إلى السماء لتعانق روحها السحاب، لتعود شعاعاً تارة في رونق القمر، ونور شمس في الصباح تبث الروح لبدء يوم جديد.
قبل رحيلها بساعات سألتها عن قصة الوردة التي لم تبرح يدها، بل كانت تزداد تمسُّكاً بها كل حين. وحدثتني عنها: رحلت رفيقتي إلى جبال قنديل وتركتها تذكاراً معي، ومنذ سنتين لا أدري عنها شيئاً لكني أرى دوماً هذه الوردة، أرجوكم أن تحافظوا على هذه الوردة وإذا استشهدت فهي هدية وتذكار لكم.
وبعد ذلك وفي صباح اليوم التالي، أعلنت روحها الرحيل إلى السماء، لتعانق رفيقاتها هناك وتركت بندقية وورده، وقلما وورقة كتبت عليها «ارجوكم حافظوا على الهدية».