سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

ماهية القوة الناعمة

دجوار أحمد آغا

يُعرف جوزيف ناي الأستاذ والباحث الأكاديمي في جامعة هارفارد الأمريكية القوة الناعمة على الشكل الآتي:
“القوة الناعمة هي في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الاعتماد على الإكراه والتهديد”.
هذه الجاذبية التي يذكرها الأستاذ الباحث يمكن نشرها بالعديد من الطرق وتحت مسميات متنوعة (الثقافة الشعبية – المنظمات الإنسانية الإغاثية – الدبلوماسية – المؤسسات والشركات التجارية، و… إلخ ) لكن الباحث الأمريكي يحصر القوة الناعمة لأية دولة كانت على المستوى العالمي بثلاثة أسس وهي:
– الثقافة العامة ومدى قدرتها على جذب الآخرين أو نفورهم منها.

 


– القيم السياسية (الليبرالية – المبادئ العامة – حقوق الإنسان – … إلخ ) ومدى تقبلها وجدية الالتزام بها سواء داخلياً أم خارجياً, في أوقات الحرب أو السلم.
– السياسة الخارجية الممارسة ومدى مشروعيتها ودرجة قبولها الطوعي من جانب دول العالم وشعوبه.
يمكننا تلخيص واختصار مفهوم القوة الناعمة بكونها تكمن في القدرة على الاحتواء الخفي والجذب اللين بحيث يرغب الآخرون في فعل ما تريده قوى الحداثة الرأسمالية المهيمنة, دون الحاجة إلى استخدام القوة والعنف, وهو ما يغني عن استخدام سياسة العصا والجزرة المتعبة سابقاً. إن كانت القوة الصلبة تنبع من القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية ونوعية الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا, فإن القوة الناعمة تتوضح في مدى قدرة القوة المهيمنة العالمية على الإغراء والاستحواذ على عقول وألباب الأفراد والمجتمعات والشعوب وحتى الدول وقادتها (عبد الناصر – نهرو – تيتو – ماو تسي تونغ – مهاتير محمد – … إلخ ) نموذجاً, حيث نرى بأنهم بقدر ما كانوا متمردين على قوى الهيمنة الاستعمارية الرأسمالية, بقدر ما كانوا منجذبين إلى إنجاز التحديث والتطوير في بنية مجتمعاتهم وفق النموذج الغربي والالتحاق به.
وهكذا نعلم بأن القوة الناعمة: (هي القدرة على التأثير على سلوك الآخرين من خلال الجاذبية), وهي الأكثر تأثيراً والأقل كلفة، لكنها الأخطر على هويات البلاد وثقافتها ومستقبلها. مدى فعالية وتأثير القوة الناعمة في تحكم قوى الهيمنة العالمية على مصائر شعوب وأمم تعتبر نفسها مستقلة وذات سيادة, بينما نرى في حقيقة الأمر سعي الجميع إلى السير على خطى الليبرالية الغربية والنموذج الرأسمالي في الاقتصاد وطريقة الحياة وحتى التعامل الاجتماعي, تتبين لنا مدى تأثير وفعالية هذه القوة الناعمة في خلخلة وانهيار منظومة قيمنا المادية والمعنوية وتدمير تراثنا الفكري الحضاري الذي تمتاز به شعوب وأمم الشرق عامة.


القوة الناعمة تعني “حينما أجعلك تريد فعل ما أريده أنا منك, فلا حاجة إذن لاستخدام القوة العسكرية لإرغامك على فعل ذلك”. بالتأكيد علينا أن لا ننسى أن هذه القوة الناعمة شديدة الصلة بالقوة الصلبة وهي تخفي نوعاً من الإرغام أو الإكراه الخفي إن صح التعبير, فعندما يتم إغراء الناس بقَبول ما يتناقض مع حاجاتهم الأساسية ومصالحهم بطرق دبلوماسية من دعاية ولعب بالمشاعر والعواطف, فهو يُعد شكلاً من أشكال العنف المتخفي. ذكر الفيلسوف والمفكر الكبير ابن خلدون بخصوص هذا الوضع ما يلي:
“إن المغلوب عادة ما يكون مولع بتقليد الغالب في طريقة الحياة وفي الملبس والمأكل وحتى في أنماط التفكير, وفي كل شيء”، وهي تعتبر قاعدة اجتماعية راجحة مع وجود بعض الحالات الاستثنائية. يُكمل ابن خلدون في تفسير هذا الأمر بقوله في مقدمته: “والسبب في ذلك أن النفس دوماً تعتقد الكمال فيمن غلبها, وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب… “.


عبد الرحمن ابن خلدون, المقدمة (القاهرة، دار الفجر للتراث, 2004 ) صفحة 192
مثلما كانت باريس ولندن وامستردام وفيينا منارات للعلم والثقافة والفنون والسياسة والقوة في العالم أجمع في القرن الثامن عشر وما بعده, نحن نعيش الحال نفسه الآن في القرن الحادي والعشرين مع نيويورك وطوكيو وواشنطن وموسكو, التي غدت منارات ملهمة وجاذبة لرجالات الدول والنخب المثقفة فيها وحتى لعامة الشعب. الكل يسعى من أجل العمل وفق نموذج هذه الدول سواء في البناء العمراني أو في بناء الإنسان من خلال تبني نماذج التعليم الخاصة بمراكز القوى المهيمنة عالمياً (توفل – هانزا – لنغفون) نموذجاً. لذا؛ نرى انتشار ظاهرة بناء المراكز الثقافية لهذه القوى المهيمنة عالمياً في معظم دول العالم وذلك لنشر ثقافتها وتوفير الكثير من الامتيازات للطلبة الذين يدرسون لديها كإرسالهم في بعثات على حساب المركز الثقافي إلى دولها لغسل أدمغتهم وجعلهم وسيلة وأداة يتم استخدامها في القوة الناعمة من خلال تمجيد وتعظيم الحياة في البلاد التي درسوا فيها ووصف بديع وجميل للحياة والعيش في تلك البلدان وأنه يتوفر فيها كل شيء من احترام حقوق الإنسان وخصوصيته وتقديم المساعدة الاجتماعية له على نفقة الدولة, مما يؤدي في نهاية المطاف إلى المزيد من النفوذ لهذه القوى بين شعوب دول العالم وبمساعدة مباشرة من أبناء شعوب هذه الدول بذاتها. هكذا أصبح مألوفا جداً أن نرى المثقف والسياسي وحتى عامة الناس, في القاهرة ونيودلهي وجاكرتا ودبي وكوالالمبور ودمشق وغيرها, يعتبر أن نظام العمارة وهندسة المدن وتخطيط الشوارع وسن القوانين وعزف الموسيقى وحتى نظم الشعر وكتابة الرواية باللغة الفرنسية والإنجليزية هي النموذج الأمثل والأوحد لتطور ورقي الحضارة الإنسانية, وهو ما دفع بالكثير من النخب الثقافية والسياسية الحاكمة إلى التخلي عن كل ما هو محلي باعتباره قديماً ومتخلفاً عن ركب الحضارة, والتهافت على الوافد الأجنبي كونه أفضل ومتطور وأحسن من المحلي حكماً (الأدوية والأدوات الكهربائية وحتى الدخان) نموذجاً.
ما أعطى الحداثة الرأسمالية هذه القدرة الهائلة في التأثير على مختلف شعوب العالم, إنما يعود بالدرجة الأولى إلى تفوقها العسكري الكاسح, بالإضافة إلى قدرتها الكبيرة في التسرب الناعم والخفي إلى مختلف نواحي الوعي وبواطن الشعور, وتوجيه سلوك الأفراد والمجتمعات في مختلف بقاع العالم وفق ما تريده مستفيدة من التقنيات والتكنولوجيا المتطورة التي تمتلكها. أصبح استخدام هذه التقنيات التجسيد الأبرز للحداثة الرأسمالية, بحيث تُعيد تشكيل ثقافات الناس وأنماط علاقاتهم وتقاليدهم الاجتماعية, وإن كانت درجة استجابة الشعوب وتفاعلاتها الثقافية مع الحداثة تتفاوت. لقد حطمت الحداثة الرأسمالية بالقوة العسكرية والاقتصادية الهائلة التي تمتلكها, ميراث وحضارة الكثير من الشعوب والأقوام في آسيا وأفريقيا وأمريكا وأفنت لغاتها المحلية.
ولكي نتعرف على مفردات القوة الناعمة نرى مثلاً أن مئات الملايين من البشر في مختلف أرجاء المعمورة يلبسون الجينز الأمريكي ويتعلمون اللهجة أو اللكنة الأمريكية في اللغة الإنجليزية التي أضحت اللغة الأساس في كافة البرمجيات والتقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي العالمية بحكم تحكم الحداثة الرأسمالية بها, كما أن أمريكا هي أكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم، وفيها أكثر من (86) ألف باحث أجنبي, وتحتل المرتبة الأولى في الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، إلى جانب الكثير من العلامات التجارية ( بيبسي – كوكا كولا – ماكدونالدز – هامبرغر…)، أفلام الهوليود، انتقال الطلبة للدراسة في أمريكا، الكتب، الصناعة، الإعلام كالقنوات التلفزيونية والإذاعية، الملابس والموضة، الشعارات والقيم السياسية مثل: حقوق الإنسان، الحرية، الديمقراطية… وغيرها.
يتبين لنا من خلال ما تم ذكره أن دور القوة الناعمة يُفسر أمرين مهمين، هما:
أولاً- الأهمية الكبرى التي توليها قوى الحداثة والهيمنة الرأسمالية لتوسيع مجال نفوذها الثقافي والدبلوماسي واللغوي من الانتشار, بنفس المقدار الذي توليه لتطوير وتحديث قدراتها العسكرية والاقتصادية وتوسيع مجالات بيعها ونشرها في العالم (دول الكومونويلث – الدول الفرنكوفونية) نموذجاً.
ثانياً- الخوف الذي ينتاب هذه القوى المهيمنة العالمية من خسارتها لنفوذها الثقافي والدبلوماسي واللغوي في ظل نشوء الوعي والاهتمام لدى شعوب العالم بثقافاتها والعودة إلى لغاتها الأم وإقامة العلاقات الدبلوماسية مع من يدعمها في هذا الاتجاه.
لذا نجد وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول يقول: “لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا”.