الفنان التشكيلي: لست متمرداً… وأسلط الضوء على المآسي ولا أتاجر بها.
صاحب تجربة فنية ثرية خارجة عن الإطار المألوف، فرشتُه تحمل ألواناً مبهجة، حتى وإن كانت تبدو قاتمة، لتطلق صرخات في وجه القبح والدمار عبر رسائل ضمنيّة تحملها شخصياته، التي اختار لها اسم (العصابة)… إنه الفنان التشكيلي السوري مجد كردية.
تسلح بالفن في مواجهة الحروب
ولد الفنان السوري في مدينة حلب، وقضى معظم حياته على نهر الفرات، فتأثر بالمعطيات الجمالية من حوله، إضافة إلى الظروف السياسية، فوالده اُعتقل 12 عاماً، فضلاً عن أسرته، التي شكّلت ثقافته ونظرته إلى الأمور.
شخصيات مجد كردية التي يصنعها من خياله، استطاعت أن تحلّق فوق المعابر، وتقفز على الحواجز والأسلاك الشائكة، حتى وصلت إلى الناس في كل مكان، حاملةً رسائل ودعوات للحب والسلام وترميم القلوب المكسورة، مشهرةً سلاح الفن في مواجهة الحرب والألم والخراب.
الفن معرفة وليس جنوناً
يحتار الناس في توصيف مثل هذا النوع من الفن، يراه البعض كاريكاتيراً، وآخرون يصنفونه سيريالياً، وفريق ثالث يضعه في ميزان الواقعية السحرية، فكيف يجد الفنان هُويته الفنية، وتصير له مدرسته الخاصة، يقول الفنان السوري، “المدارس الفنية ما هي إلا مصطلحات لتسهيل دراسة الفن، لكنها لا تعبر عنه بشكل دقيق. الكاريكاتير ابن الصحافة والحدث اليومي، ويختفي أثره بتقادم الحدث، وأنا لا أتناول أحداثاً يومية. ربما تكون أعمالي مزيجاً تعبيرياً رمزياً، وربما واقعية سحرية”.
وتابع، “أما عن الهُوية الفنية فلا توجد وصفات سحرية لذلك، العمل والجهد والبحث والمعرفة فقط هي السبيل لخلق شخصية الفنان، فالفن معرفة وليس جنوناً”.
رغم أن لوحات مجد كردية تحمل خطوطاً طفولية وألواناً مبهجة، لكنها بذات القدر تمتلئ بهمّ كبير وقضايا شائكة، تقدمها بأسلوب سلس وبسيط، وعن هذا يقول “أحب أن لا أقول كل شيء، وأن أترك مساحة أو نافذة تتحرك فيها أفكار المتلقي وهواجسه، ليصبح جزءاً من العمل دون أن يدري، وبشكل عام لا أميل إلى تفسير الماء بالماء”.
ويستكمل، “من جهة أخرى أحاول تسليط الضوء على المآسي، التي تحدث دون الاتجار بها، فلا أرسم صور الدمار والضحايا، وأحوّلها إلى أعمال فنية، فأرى في ذلك تسويقاً للعنف، وتحويله إلى حالة جمالية على يد الفنانين”.
مواجهة القمع والقبح
العلاقة المتبادلة بين السياسة والفن، وكيفية تأثير كل منهما في الآخر دائماً ما تكون محل تساؤل خصوصاً بعد الثورات العربية، فهل أثر الفن التشكيلي أم تأثر بالسياسة يقول مجد كردية “لا توجد علاقة متبادلة بين السياسة والفن إلا في إطار قمع السياسي للفنان. هذه هي العلاقة الوحيدة بينهما. السياسة هي فن السيطرة على الحشود، والفن هو وسيلة لمخاطبة الأفراد”.
ويلفت إلى أننا “بحاجة إلى 50 سنة على الأقل للحديث عن تأثير الثورات العربية في الفن التشكيلي، التجربة لم تنضج بعد، وبشكل عام كل التجارب والمخاضات الجديدة أفضل من مستنقع الركود”.
وعن دور الفنان في مثل هذه الأوقات حيث التوترات السياسية يؤكد “في خضم الثورات والأحداث العظمى يتحوّل الفن من تلقاء نفسه إلى خبز تأكله الأرواح الجائعة، بينما في حالات الرخاء والهدوء يكون زخرفات تزين الجدران، وفي الثورات تعصف الأفكار الجديدة في كل مناحي الحياة، والفن واحد منها، عليه أن يمتصها، ويعبر عنها، ويشارك في صناعة مجراها المستقبلي، الفن طلقات تواجه القمع والقبح والحرب، وهذا من بديهيات أي فنان يحترم فنه وذاته، ويملك مثقال ذرة من الأخلاقيات”.
حكايات مرسومة بعين طفولية وخيال شعري
يعتمد الفنان السوري مجد كردية في مجموعة رسومه الملونة على فكرة الحكي أو الكلام. هو يروي حكاية مستمرة على ألسنة شخوصه من البشر والحيوانات والنباتات. قد يهيأ لنا حين نطالع هذه المجموعات المرسومة أننا أمام واحدة من قصص الرسوم المصورة أو الكارتونية، لكننا حين نتأمل المشهد ونصل أطراف هذه الحكايات المرسومة بمزيج من الشاعرية والرهافة ندرك أننا أمام وسيط مختلف؛ وسيط يستعير محتواه من القصص المصورة، ويستلهم أجواءه من الرسوم الكارتونية، لكنه يتخذ لنفسه قواماً آخر غير هذا وذاك. يمكننا أن نصنف أعمال مجد كردية كما يحلو لنا، لكنها على كل حال أعمال تحمل فرادتها الخاصة وتفرض حضورها ككيان عالق بين الرسم والأدب، كما تُراوح بين رصانة الأفكار وعبثها.
يعرض مجد كردية جانباً من رسومه تلك حالياً في مساحتي “فن آ بورتيه” في دبي وعَمّان حتى 17 من أيلول. على الملصق الدعائي المصاحب للمعرض رسم كردية جانباً من عناصره وشخصياته الأثيرة: الحوت والفيل والحمار وراية الشمس والزهرة، إلى جانب الشخصيتين المحوريتين “فصعون وفصعونة” وهي الشخصيات والعناصر التي تجري على ألسنتها الجمل والأقوال المكتوبة التي لا تخلو منها لوحاته. يمزج مجد كردية بين الكتابة والرسم فتدل الرسوم على الكلمات، كما تدل الكلمات على الرسوم لتصنع في النهاية نسقاً متوازناً منهما لا ينفصل أحدهما عن الآخر. عالم مجد كردية يفيض بالبراءة وروح الطفولة، غير أن هذه البراءة الطفولية الظاهرة تُخفي وراءها الكثير. هو يستدعي جمله الحوارية من بنات أفكاره، أو من كلمات الأغاني الشهيرة أو قصائد الشعراء المعاصرين أو القدامى مثل أبو الطيب المتنبي، وبشّار بن برد، وعنترة، وقيس، وغيرهم من فطاحل الشعراء العرب.
تتكرر العناصر والشخصيات التي يرسمها مجد كردية، لكنها في كل مرة تمتلك فرادة في صوغها وعلاقتها بالفراغ المحيط بها والسياق الذي وُظفت من أجله. يتصدر هذه الشخصيات طفل وطفلة ضئيلا الحجم، أو كما يُطلق عليهما الفنان “الفصاعين” باللهجة السورية، للإشارة إلى ضآلة حجمهما. إلى جانب “الفصاعين” تبرز أيضاً أدوار الشخصيات الأخرى من أفراد العصابة التي يطلق عليها كردية اسم “عصابة الفراشة الجميلة والمخيفة للغاية”، وهو وصف يلخص ما يميز تلك الأعمال من مزج ومراوحة محببة بين الجد والهزل، وبين الطرافة والحكمة، أو بين براءة الطفولة والطرح المباشر للفكرة وعُمق المضمون.
لو أن الفتى حجر…
“ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر/ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم” هو بيت للشاعر تميم بن مُقبل كتبه كردية على جانب إحدى لوحاته الملونة، بينما تتصدر مساحة اللوحة صورة كبيرة لنبات الصبار تكاد تبتلع كامل المساحة، وفي الوسط ثمة حجر صغير ملقى على الأرض. بيت آخر لأبي ذؤيب الهذلي يقول فيه: “وتجلُدي للشامتين أُرِيهم/ أنّي لريب الدهر لا أتضعضع”. يرافق البيت رسم مشابه يشي بالتفاؤل رغم المعاناة البادية على المشهد. يحوّل كردية هذه الأبيات والكلمات الشعرية الرصينة إلى رسوم هزلية تتسم بالطرافة وفي صياغات لونية مبهجة. يرسم الفنان أعماله تلك على خلفية حيادية، بيضاء في الغالب، ما يمثل عاملاً مساعداً لإبراز الخطوط والدرجات اللونية التي تتوزع على مساحة الرسم في انسيابية وخفة.
جملة من المشاعر والأحاسيس في صورة واحدة
تشير رسوم كردية بأفكاره حول العديد من القضايا والأحداث المحيطة بنا، لكنها تحتفي في المقام الأول بالعلاقات والمشاعر الإنسانية، من حب وأمل وفقد ولوعة وصراع بين الخير والشر، وفي معالجات رمزية دالة لها أبعاد شاعرية رغم تناقضها أحياناً. أعمال مجد كردية قريبة إلى الفهم والتفسير ومُفعمة بالتفاؤل والأمل على الرغم من المحن والصعاب التي تعبر عنها الرسوم والكلمات أحياناً. وربما لهذا تجد أعمال كردية قبولاً لدى المتلقي العربي، فهو يعالج القسوة باللين والخوف بالإفراط في التعبير عن المشاعر والأحاسيس، والتعقيد بالبساطة والاختزال والرمزية.
قد يجسد في رسومه مثلاً حواراً مع الشمس أو القمر، أو يعبر عن سجال ما بين الفيل وأزهار الحديقة. يتحول قلب الفيل الضخم في رسومات كردية إلى سمكة، وينطق الحمار بالحكمة، وتتسابق الفراشات على نزع الأشواك من الطريق وزرعه بالأزهار. يعيدنا مجد كردية من خلال رسومه تلك إلى رحابة الخيال الطفولي، لكنه في الوقت نفسه يدفعنا دفعاً إلى الإنعام في التفكير وإعادة النظر في الكثير من الأفكار والقناعات والأشياء اليومية التي نتعامل معها.
ولد مجد كردية في مدينة حلب في سوريا عام 1985، وهو يعيش ويعمل حالياً في لبنان، وقد عرضت أعماله على نطاق واسع عربياً ودولياً، في بيروت ودبي وعمّان والقاهرة والمنامة وبرلين ولندن.