” حسام اسماعيل ” –
تُعرف الجمعة المسائيَّة العفويَّة أو ما يُطلق عليه بالمسمى العامي الدارج باسم “التعليلة”؛ لدى أهالي المنطقة على العمومِ بأنَّها الظاهرة الاجتماعيَّة أو المكان لالتقاء الأصدقاء والأقارب، بعد صلاة المغرب عادةً أو مساءاً والجلوس بشكلٍ جماعي، وتختلف عن (تعليلة) ما قبل العرس بأنَّها عادةٌ اجتماعيَّة يوميَّة دارجة، وظاهرةٌ تعقد وبشكل يومي مساءاً في أغلب المناطق وبالأخص الريفية منها، حيث تكون أقوى وأكثر انتشاراً، لذلك لا يُعتبر الاجتماع طوال فترة النهار (اللمة) على أنَّها (تعليلة)، بل يطلق عليه مصطلح آخر وهو (الهرجة)، وتجتمع في الاثنتين عوامل مشتركة، وتتشابهان كثيراً، حيث يكون فيهما تبادلٌ للأحاديث، وتواصل مع الأفراد المجتمعين، وتُعتبر وسيلة مهمة للتواصل، و تبادل الهموم، والمشاكل أو الأحاديث المفيدة والمضحكة لدى أفراد المجتمع، وتساعد كثيراً على حلِّ المشاكل، وإحدى مظاهر الترابط المجتمعي التي تحدث بشكلٍ يومي، ولكن ظهور الهواتف الذكيَّة، ووسائل التواصل الحديثة شكَّلت خطراً كبيراً على هذه الظاهرة، وقللت منها إلى حد تهديدها، ووصولها إلى مرحلة الانقراض بدل التواصل المباشر عن طريق (التعاليل) العفويَّة.
وبحكم التَّرابط المجتمعي الذي تشكلهُ المنظومة العشائريَّة أو الأسريَّة المتينة التي تقوم على أساسها شعوبنا الأصيلة، فلهذه الظاهرة أهميَّة بالغة، ودورٌ كبيرٌ في تقويَّة الروابط الأسريَّة بين أفراده، وللحاجةِ إلى التواصل المُستمر من خلالها، وجدت وتطورَّت بشكلٍ كبيرٍ، إلا أن وسائل التواصل الحديثة عبَّر الهواتفِ الذكيَّة هدَّدت بانقراضِ هذه الظاهرةِ وإلى الأبد، بسببِ اعتمادِ الجيِّل الناشئ عليها، وبشكلٍ مباشرٍ، فأصبحَ هو الصديق وهو الأنيسُ وهو المعللُ، فهنالك نسبةٌ عظمى من الشباب لا يَكادون يتواصلون مع بعضهم البعض إلا عن طريقهِ، ولا تكادُ طموحاتهم تتعدى امتلاكَ أحدث الهواتف الذكيَّة وتحميل أحدث التطبيقات التي عن طريقها يختار تعليلته بنفسه إن كانت تعليلة سوءٌ أو أخرى مفيدة حقاً.
لا أريد أن ابتعد كثيراً عن لبِّ حديثنا ولا عن المشاكلِ الخطيرة التَّي يُسببها استخدام التكنولوجيا الحديثةِ التَّي بدأت تَتغلل بينَ أفرادِ مجتمعاتنا، لأنَّها كثيرةٌ وخطيرةٌ كما سبقَ ووصفتها، إلا أنَّنا يجبُ أن نَذكر فوائدَ الحلقاتِ التَّي تُعقد في كلِّ مساءٍ وإلى الآن يَتمسكُ بها كبارُ السنِ الذين تَربوا على سجيتهم، وعلى طبيعتهم الأولى، وهي (التعليلة)، على الاحترامِ والأخلاقِ الطيبةِ الحميدةِ، والتَّي تُترجمُ في (تعاليلهم) المسائيَّة، التي هي محصلة يوم طويل من التعب والكد اليومي والدائم، وتكون أيضاً فرصة جيدةٌ لتذكير بتاريخ الآباء والأجداد أو تفتح المجال واسعاً لنقاشاتٍ قد يطول محورها قضايا سياسيَّة أو اجتماعيَّة في غايَّة الأهميَّة تبيّنُ موقف ووجهة نظر كل شخصٍ في هذه المواضيع نابعة من حسٍ وطنيٍ يهمه ما يحدثُ حوله، وكأنَّها تُزيح قسماً عظيماً من همومهم، وتعالج كتلة ضخمة من مشاكلهم، وتجيبُ عن استفساراتهم، بطريقةٍ سحريَّة فلا تجد أحدً منهم إلا والسعادة تغمرهُ، والضحكة ُلا تكاد تفارقُ ثغره، فهي كالعلاجِ النفسي للإنسانِ ففي أوروبا أثبتت الدراسات أهميَّة التواصل بينَ أفراد المُجتمع، وضرورة وجودِ منظومةٍ تواصلٍ مستمرة بين أفرادِ المجتمع، وبينت خطورة التواصل الغير مُباشر عن طريقِ الوسائلِ الإلكترونيَّة والتكنولوجيا المُتطورة.
في حين أنَّ التعليلة كما ذكرنا وعرفناها على أنَّها ظاهرةٌ اجتماعيَّة ووسيلةٌ للتواصلِ فلا بدَّ لنا أن نُشير إلى مخاطرِ عدم التواصل، وخطورةِ انقراضِ هذهِ الظاهرة، والظواهر الاجتماعيَّة المُشابهة لها، لا شكَ بأنَّ لا أحد يستطيعُ العيشَ بمفردهِ من دونِ تواصلٍ ومن دونِ احتكاك مع أفراد المُجتمع، لأنَّ هذا الأمر يُورثُ إنسان لا يَمتلكُ الثقةَ، ولا يَمتلك القُدرة على المواجهةِ أو التعبير الكلامي واللفظي عن نفسهِ، لذلكَ يُصبحُ منبوذً مجتمعيّاً، وقد يُولد هذا الشعور حقدٌ دفينٌ على المُجتمع ويَقودُ لارتكابِ جرائمَ بحقهِ دونَ الشعور بالذنبِ تجاههُ، إضافةً إلى مشاكلَ أخرى لا تُحمدُ عُقباها.