روناهي/ الرقة – في عمق الريف الجنوبي لمقاطعة الرقة، حيث تعانق الشمس بيوت الطين كل صباح، تبصر الحياة من جديد على يد نساء لا يحملن فقط أوعية الحليب، بل ذاكرة المكان وروح الجدّات، فيتخذن صناعة الجبنة حفاظاً على العادات المجتمعية ووسيلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ومن الصبر الذي ترسّب في أهداب النساء حكايات لا تنسى، إنها قصة جبنة تعد من اللبن والخبرة، لكنها أيضاً، في جوهرها، مشروع حياة كامل يحمل اسماً ومظلّة. هنّ الفجر حين يشرق، والموقد حين يشغل، والحنان حين يعجن بالملح.
مشروع صناعة الجبنة التقليدية، الذي يعدّ أحد أبرز مشاريع “اقتصاد المرأة” التابع لمجلس تجمع نساء زنوبيا، في الرقة، ويهدف إلى تمكين نساء الريف اقتصادياً واجتماعياً من خلال إحياء المونة المنزلية التراثية.
رحلة من العطاء والمهارة
وفي الساعات التي تسبق الضوء، تستيقظ “عائشة الأحمد“، ترتدي ثوبها وتجمع الحليب من أغنامها التي ربتها كما ربّت أبناءها. الحليب هنا ليس سائلاً أبيض فحسب، بل بداية رحلة كاملة من العطاء والمهارة.
وتجمع النساء الحليب بشبكة صغيرة من التعاون، كلٌّ تكمل عمل الأخرى، في بيئة تحوّلت من بيوت متباعدة إلى خلية إنتاج تضجّ بالحياة. وتسخّن النساء الحليب على نار هادئة، تحرّكه بلطف، فلا يُترك ليغلي فجأة، ولا ليبرد قبل أوانه. الحرارة هنا ليست تقنية، بل تجربة متراكمة. وتقول “عائشة” التي انتقلت من ربة منزل إلى صاحبة منتج تُسوّقه بنفسها، في حديث لصحيفتنا “روناهي”: “نشعر بالحليب إذا ارتاح أو لا. الصوت، الرائحة، حتى الفقاعات تُخبرنا”.
إنتاج ممزوج بتعاون وجهد النساء
وبإضافة خميرة اللبن، يبدأ الحليب في التشكل. يُغطى القدر ويوضع في مكان دافئ، وكل امرأة تضع “سرّها” في هذه المرحلة، بعضها تضعه قرب الموقد، وأخريات يلففنه ببطانية قديمة ورائحة الأمومة، “اللبن لا يتخثّر إلا إذا أحبّكِ”، تقولها عائشة، وتضحك كأنها تُعطي درساً في علم النفس أكثر من الطبخ. وتقطّع الخثرة، توضع في أكياس قماشية، وتعلّق من السقف لتقطير الشرش. لا حاجة لأدوات حديثة في إعداد جبنة تضاهي المصانع العالمية. ويملّح الجبن ويطعّم بالأعشاب البرية، كالزعتر، والحبة السوداء، والكزبرة. كل بيت له خلطته الخاصة، وكل امرأة تضع ذوقها كما تضع ملامحها على وجه قطعة الجبنة.
حين يتحوّل التراث إلى رافعة مجتمعية
وبفضل التدريب والدعم من مجلس تجمع نساء زنوبيا، باتت النساء يسوّقن منتجاتهن في الأسواق المحلية، وبعضهن تعلمن الحسابات اليومية، والتفاوض، والتغليف. وبإشراف مباشر من مجلس تجمع نساء زنوبيا، ساعد هذا المشروع في تمكين عشرات النساء، لا فقط عبر تأمين دخل، بل بإعادة تعريف دور المرأة في المجتمع الريفي كفائدة ومنتِجة.
تقول “ريم الخالد” والتي تبلغ من العمر ستة وثلاثين عاماً، تعمل أيضاً في صناعة الجبنة التقليدية: “أشعر أنني أملك شيئاً خاصاً بي. لم أعد أنتظر أحداً ليعطيني مصروفي. أنا أربح من تعب يدي”.
وأكدت ريم: “الجبنة التي نصنعها ليست فقط طعاماً، بل قصة مقاومة. نحن نبني اقتصاداً محلياً بأدوات بسيطة ولكن بوعي جديد”.
وفي قطعة الجبنة التي تصل إلى مائدة الإفطار في أحد بيوت الرقة، تختبئ ساعات من الوقوف، وتعاون نسائي صادق، وأمل في غدٍ يكون للنساء فيه كلمة ودور ومصدر دخل لا يُنتزع.
هنا، في هذا المشروع الصغير الكبير، تصنع النساء الجبنة، ويصنعن معها الحب والتعاون والاكتفاء.