نسرين شيخو (إعلامية)
مشاهد لا يمكن تصوّرها إلا في الروايات الخيالية، ويصعب على العقل تصديقها، مرة من عظمة إرادة المقاتل الذي يواجه مصير الفناء وهو لا يحمل معه سوى سلاح بسيط، وإرادة كبيرة وقلباً يخفق بالحرية وروحاً تهالكت لأجل الحصول عليها وعقلاً وفكراً يرعب أنظمةً أكبر وأقوى الدول التي تتباهى بعتادها وذاكرةً لا تنسى أنين شعبه في قبور لوياثان العصر، ومرةً من دناءة الظالم الذي يحاول بشتى الأساليب إمحاء فكرٍ وشعبٍ يأبى الاندثار أمام نار العدو يرمي كرات اللهب فوق رؤوس أنقى القلوب باللجوء إلى طائراته لاصطياد أرواحهم، وصل به الحقد والخوف من الحقيقة إلى ضرب النار بالطين ما يظهر قزامته أمام ضخامة الإرادة الآبوجية. يقول القائد عبد الله أوجلان في إحدى مجلداته “ثمة بشرية تتأوه ثمة طبيعة تستهلك وثمة عشق يتعرض للخيانة، فإن لم نلبِ متطلبات تلك البشرية المتأوهة وإن لم نقف في وجه استهلاك الطبيعة وإن لم نرد الصاع صاعين على الخيانة التي طالت العشق فعن أي حياةٍ سنتحدث إذن؟”.
لتنبثق هذه الحركة وتتدفق لتحيي الحياة مجدداً وتعيد لها معناها وقيمتها وتنقذ البشرية جمعاء وتخلد في التاريخ حقيقة أمةً أبت أن تركع أو تُباد منذ الأزل وحتى في المستقبل، لتعزف ألحانًا من المقاومة نغماتها النصر والحرية.
بسواعدهم وألسنتهم، بأسلحتهم وأفكارهم كتبوا بحروفٍ من الإيمان والحب تاريخاً جديداً لتحرر البشرية لن يمحوه الزمان ولا حقّاد وجهلاء الحقيقة والتاريخ..
وكما يصعب الإتيان بسورة مما ذكر في القرآن الكريم، يستحال للتاريخ إنجاب حركة حاربت بالفكر أولاً ثم السلاح لإبقاء القضية حيّة في قلب الجبال أمام ذهنية رفضت الحقيقة التاريخية بأن الكرد من أقدم شعوب البشرية.
حركةً اتخذت الأيديولوجية معياراً للتقدم وصاغت نوعاً من الحياة لم يشهده التاريخ منذ نشوئه، وتمرست في تجددها وإحياء الذاكرة الكردية وخاضت أعظم ثورة ليس فقط من ناحية كسر شوكة الطاغية إنما نجاحها في إسقاط حبّ الطغيان من القلوب.
لم تخُن الحياة والرفاقية جابهت الموت بأذرع مفتوحة وثغرات مبتسمة لأجل القائد لأجل العشق وكردستان، آمنوا بأن الشهادة في سبيل الأرض والجبال حياةٌ وحب ونهضت بالروح الكردية ليذكرونا بالجمال بالفن بنغمةً تعزف على أوتار الروح عنوانها البقاء لكردستان والأرض تتسع للهوية الكردية.
عيونٌ لا تهرب من النار، وأقدامٌ تسير نحو الأمل بلهفة بحسرة دون تردد بروحٍ فدائية آبوجية بفكرٍ أوجلاني لتدون حكاية بصوت بأن الحياة لا تعاش بصمت، لأنهم يعلمون علم اليقين بأن القدرة على الفهم تعني الحياة مثلما إن هدف القدرة على الحياة هو الفهم كما يقول الفيلسوف الأممي ومؤسس هذه الحركة الفريدة والجديرة بالتقديس، حركة في القلب.. في الذاكرة.
الزمن متكئ على أكتافهم وظهورهم، شباناً شيباً عقولهم فائضة بالفكر أرواحهم غنية بالحب إرادتهم صلبة كصلابة الجبال التي يدافعون عنها لأنهم يجدون فيها الأمان الاحتماء من مكر التاريخ وطغاة العصر وخونة الحب والأرض، وغدر البشرية.
اسم، نغمة، حكاية، صوت، رواية، مقاومة، كلمة، صدى ضحكاتهم، رثائهم في استشهاد رفاق دربهم خفقات قلوبهم ونظراتهم السماوية إعلان على إن الحياة لا تهزم تسمع صداها لدى الاقتراب من الجبال من الحرية، قصص طويلة مكتوبة بالحبر الأحمر على وريقات الأشجار وبين شقوق الصخور تأخذنا في بحور الخيال إلى روحٍ لا تعرف الموت وعيونٍ تلمع عندما تلمح الشهادة.
ثقة مطلقة ويقين لا يزحزحه شك استجابوا لنداء القائد عبد الله أوجلان وأعلنوا عن حل الهيكل التنظيمي للحزب عبر قرار كان بمثابة عنوان لكتاب جديد من النضال ونقطة فاصلة تصل بين مقاومة دامت لأكثر من أربعة عقود ونصرٍ مرهون.
يرد أحد مؤسسي حزب العمال الكردستاني على الترهات التي تتقصد إضعاف المشهد وإظهار القرار على إنه خطأ تاريخي ويقول “والآن يقولون، لماذا يتخلى عن الحرب بعد كل هذا القتال؟ حسناً، هل سيحارب هذا الشعب دائماً؟ أي هل سيقضي الكرد عمرهم بالكامل في خوض الحرب؟ البعض يعتبرون أنفسهم أذكياء جداً، إذا كانوا يرغبون في الحرب، فليحاربوا هم بأنفسهم، إذا كانوا يعشقون الحرب إلى هذا الحد، فليتقدموا ولا يقفوا ويحاربوا، من يثنيهم عن ذلك؟”.
ويعبّر أكثر “وهذا ينطبق أيضاً على القدرة النضالية للشعب الكردي، قدرة الشعب الكردي على النضال لا تنتهي، يعني، هناك حدود للقوة، فهم لا يمتلكون موارد مادية كبيرة جداً، ولكن، من الناحية التاريخية هو شعب مناضل لأبعد الحدود، أرضه منتجة، ويمكنه البقاء، ضمن نظام السلطة والدولة الذي يبلغ عمره خمسة آلاف عام، قاوم دائماً هجمات خطيرة، مثل المجتمعات العشائرية، واستمر في وجوده بهذه الطريقة، إنه صاحب هكذا تاريخ. لذلك؛ من الخطأ القول إن قدرة الشعب الكردي على القتال والمقاومة قد انتهت، إنها لا تنتهي، حزب العمال الكردستاني يبدأ بمراحل نضال جديدة، المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني قد قيّم ذلك، نعتبر هذا نهاية، لكنها ليست نهاية، على العكس من ذلك، فهو تهيئة الأساس لبداية جديدة، كانت هذه بداية عملية نضال جديدة”.
بهذه الجمل اختصر عزيمة شعب لا يعترف بالهزيمة وجمالٍ لا تجده سوى في نضالٍ وحياةٍ والعلاقة الكردية في صورةٍ تعكس هيامهم بالحرب كما الرقص لأجل كسب الحياة والفوز بالعشق ووجدانٍ حيّ يتمرس الإنسانية ويصرخ بوجه الطاغية ويتفنن في الغوص في محيط الحياة ليمزق صوته كفناً خيّطه التاريخ له لدفنه وهو يتنفس الحياة.. إنهم ثوار الفن والحب والحرب.