حميد المنصوري (كاتب ومحلل سياسي)
كان ينظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأن بين مسارين، حل الدولتين أو الدولة الواحدة العلمانية كما طرحتها مجلة فرين بولسي من منطلقات أن خيار الدولة الواحدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس احتمالاً مستقبلياً، إنه موجود بالفعل وعلى أرض الواقع، فبين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، تتحكم دولة واحدة في كل شيء من دخول وخروج الأشخاص والبضائع، إلى جانب الأمن وقدرتها على فرض كافة السياسات وتطبيق القوانيين على كل من هو في الإقليم، وهذه السيطرة الإسرائيلية تحت نظام الفصل العنصري كحالة جنوب أفريقيا السابقة، وفي الأحداث الجارية منذ طوفان الأقصى والحرب المستمرة والإبادة على غزة اتضح دون شك بأن إسرائيل ذاهبةً بكل إصرار وقوة إلى منظور “زئيف جابوتِنسكي” ونظريتهِ في الجدار الحديدي. فإسرائيل اليوم تحت حكم الليكود واليمين المتطرف أضحت متمسكة في مسار “جابوتِنسكي”؛ حيث إن القوة العسكرية وغلبة الميزان العسكري لإسرائيل في المنطقة هي وحدها التي تمثل الحل لبقاء وتحقيق أرض إسرائيل، ويرى “رئيف جابوتِنسكي” بأن حق تقرير المصير لا ينطبق على الصراع العربي الإسرائيلي، فعلى الرغم من اعترافهِ بأن أرض فلسطين مأهولة بسكانها العرب، وأيضاً يقر بأن الصهيونية حركة استعمارية من الطبيعي مقاومتها من السكان، إلا أنه يرى العدالة بأن للعرب أرض واسعة وليس لليهود أرض. ومع الاختلاف بين اليمين واليسار الإسرائيلي في إمكانية إقامة دولتين “دولة فلسطينية أمام الدولة الإسرائيلية” إلا أن نظرية الجدار الحديدي دائمًا كانت هي العقيدة والأيدولوجية في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بمختلف الأحزاب الحاكمة، وتقوم النظرية على فرض ظروف سياسية وأمنية مانعة لتصدي العرب للمشروع الصهيوني عبر التفوق العسكري والصناعي والتقني الإسرائيلي، كما يرى جابوتِنسكي بأن يجب القضاء على شعب فلسطين من الناحية السياسية حيث تموت لديهم فكرة الدولة الفلسطينية بالكامل، ويصبحون أقلية ضعيفة، مع خلق ظروف لتوسع إسرائيل جغرافياً حسب الخريطة الدينية لها.
قطعاً، حجم التدمير والقتل في الحرب أو الإبادة على غزة مازال ضخماً ومستمراً مع عدم امتثال تل أبيب للشرعية الدولية وغياب الرادع السياسي والأخلاقي والقانوني إلى جانب محاولات التهجير إلى سيناء مصر، وهذا الواقع أمامنا اليوم يجعل نظرية الجدار الحديدي تتضح عبر قدرة ونفوذ إسرائيل الدولية على فرض إرادتها في القضاء على فكرة حل الدولتين وتهجير سكان عزة من القطاع، لكي تتفرغ نحو الضفة الغربية، ثم تبقى أقلية فلسطينية بعد إنجاح التهجير وبناء المستوطنات، وربما تتوسع إسرائيل في الأراضي المجاورة لها بكل سهولة، وهي تتوسع حالياً في لبنان وسوريا.
أجل استطاعت إسرائيل حرق حزب الله بقتل حسن نصر الله وتدمير قدرات الحزب العسكرية والمعنوية، ووافقت على إسقاط نظام بشار، وهذه الأحداث أفرحت الكثير من شعوب المنطقة من منطلق نظرية ضرب الظالمين بالظالمين، كما أن نظام الإيراني بسببها أمسى متوجساً السقوط بعد أحداث مقتل الرئيس الإيراني وإسماعيل هنية وحادثة البيجر الشهيرة ومقتل حسن نصر الله ويحيى السنوار وسقوط نظام بشار، وربما طهران في مسار التقسيم مع سقوط النظام الإيراني في المستقبل القريب، فهذا النظام صاحب تحركات ورؤية جيوبولتيكية توسعية مذهبية في المنطقة العربية، فالمشروع المذهبي الديني الإيراني سيسقط قريبًا بسبب فقدانه الشرعية الداخلية وفقر السكان وبروز الهويات داخل إيران والخارجة عن إطار المذهبية نحو القوميات مع بروز انشقاق في منظور الدولة الدينية المذهبية، وستبقى في المنطقة إسرائيل كدولة دينية توسعية.
وفي سياق نظرية “الجدار الحديدي” يرى مناصريها بأن الاتفاقيات الإبراهيمية هي نتاج التفوق الإسرائيلي في المنطقة، وليست هناك علاقة بين الاتفاقيات وفرص إقامة دولة فلسطينية، وهذا الأمر فيه مبالغة، فهذه الاتفاقيات تعكس المكاسب السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية بين أطرافها، والتي تأتي من الولايات المتحدة، حيث تعتبر إسرائيل أحد أهم المفاتيح نحو أبواب واشنطن، على سبيل المثال فقط، كسبت المملكة المغربية اعتراف واشنطن لها بالسيادة على الصحراء الغربية، بمعنى إن الدول في هذه الاتفاقيات تُثمن المكاسب وليست العلاقة مع إسرائيل نتاج الخوف من القوة الإسرائيلية العسكرية.
وعلى نقيض نظرية الجدار الحديدي قدم لنا كل من البروفسور كلايف جونز Clive Jones والدكتور يوئيل جوزانسكي «Yoel Guzanzky» نظرية أنظمة الأمن الضمنية «Tacit Security Regimes» في كتابيهما، (الأعداء الأخوة: إسرائيل والملكيات الخليجية).”Fraternal Enemies: Israel and the Gulf Monarchies” حيث تقوم قاعدة النظرية على وجود تعاون في مجالات محددة بين الدول دون التصادم في مسائل وقضايا أخرى كالمرتبطة بالوضع الداخلي الشعبي ومعتقداتهِ، وبالفعل يعرضان على نظريتهما أمثلة واقعية متعددة في سياق العلاقات بين طرفي الدراسة، فعلى سبيل المثال أبعاد هذه النظرية تفسر العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل، والعلاقة بين سلطنة عمان وإسرائيل في عام 1975 ضد ثورة ظفار ناهيك عن الفعالية الدولية لكلاً من قطر ودولة الإمارات في سياق العلاقة مع تل أبيب. نظرية (TSR) مع جونز وجوزانسكي تقودنا إلى الحديث عن البراجماتية الواقعية والمتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، دون أدنى شك، صنّاع القرار السياسي هم الأكثر إدراكاً للمتغيرات في البيئة الدولية والإقليمية والداخلية، لذا هم يتجهون في الغالب إلى مصالح دولهم، فمثلاً لعبة الشطرنج قد تجمع طرفين في صراع واختلاف عقائدي وثقافي، وفي الوقت نفسه يخضعان لقانون اللعبة، لذا فإن أطراف الصراع قد تجمعهم المصالح المشتركة ومتطلبات الأمن والتنمية، وربما مع تكرار واستمرار اللعب بفترات زمنية طويلة تتغير وتزول بعض المعوقات، كالصراع الحدودي أو العقائدي.
وتأتي أهم المتغيرات الدولية والإقليمية في احتمالية تقلص الدور وقوة الحضور الأمني الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والذي سيُلقي بدورهِ الأمني على عاتق الدول الإقليمية، والتي عليها تغليب مصالحها المشتركة على قضاياها الصراعية لتحقيق الأمن الإقليمي، وفي هذه المتغيرات تصلح نظرية أنظمة الأمن الضمنية وليست نظرية الجدار الحديدي.
ويبقى السؤال؛ هل إسرائيل حقاً ألغت فكرة حل الدولتين، وهل هي ماضية في سياساتها العنصرية وتهجير الفلسطينيين وتمددها الصهيوني النابع من معتقدات دينية متطرفة؟، وأتظن بأنها ستحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول العربية المعترف بها في مسار العنصرية والتمدد وإلغاء فكرة الدولة والحكم الفلسطيني؟، إن كان في المعتقد الديني اليهودي بأنها مفضلة ومدللة من الرب “الله عزوجل”، إلى أي مدى ترى إسرائيل بأن العالم الغربي خاصةً أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ستبقى داعمة لها عسكرياً وسياسياً وحتى قانونياً في ظل تصدع مصداقية ومنظومة الليبرالية والديمقراطية الغربية في النظام الدولي العالمي؟