د. طه علي أحمد
مع تحول سوريا إلى ساحة للتدخلات الأجنبية، وانفتاح ميادينها أمام تدفقات المجموعات المسلحة والمرتزقة من مختلف الدول، سواء لمساندة النظام أو لمحاربته. ومع سقوط النظام في كانون الأول الماضي وانتقال البلاد نحو ترتيبات محلية وإقليمية متداخلة برزت ظاهرة تجنيس المسلحين الأجانب كخطوةٍ تحمل في طياتها العديد من المخاطر السياسية والأمنية والاجتماعية التي تنطوي على تهديدات عميقة لهيكل الدولة السوريّة مستقبلًا.
تقف السيادة الوطنية في مقدمة المتضررين جراء عملية التجنيس مع بروز إشكالية الولاءات الخارجية لدى من يتم تجنيسهم ممن لا تجمعهم روابط قومية أو اجتماعية مع الشعب السوري لاسيما مع تخللهم أجهزة الدولة وخاصةً الجيش بما يعني اختراق منظومة صنع القرار لجهات خارجية، وقد تجلَّى ذلك خلال السنوات الماضية مع حالة الانكشاف الاستراتيجي التي عاشتها سوريا لصالح إيران سواء من خلال آلاف المسلحين الإيرانيين الذين تم تجنيسهم خلال عهد النظام السابق، أو حتى الولاء والتبعية التي بدت على السياسات العامة لرأس النظام بشار الأسد.
في هذا السياق، لا تقتصر خطورة التجنيس على مجرد وجود أشخاص أجانب في مفاصل عملية صنع القرار، بل تكمن أيضاً في البنية الأيديولوجية لهؤلاء الأجانب الذي لا تتحدد لديهم مفاهيم ثابتة للوطنية، كونهم تركوا أوطانهم الأصلية لأجل غايات تتراوح ما بين المكسب المادي أو الاعتقاد الأيديولوجي الذي ينفي أهمية المفهوم الوطني بالأساس، فبعض هؤلاء المسلحين لا ينفصلوا أيديولوجياً عن التنظيمات الإرهابية التي يزعم المجتمع الدولي محاربتها (مثل داعش أو القاعدة)، وبالتالي فإن تجنيس هؤلاء المسلحين قد يُسهّل تحركاتهم ويمنحهم غطاء قانونياً يعينهم على الإفلات من العقاب لاسيما وأن الكثير منهم متورطين في جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان، كما أن في ذلك إهانة للضحايا والشهداء ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما يعيق – بالضرورة – أي عملية مصالحة حقيقية أو محاسبة قانونية مأمولة.
لا يقتصر منح الجنسية للمسلحين الأجانب على الجانب الأمني، بل يمتد إلى إعادة تشكيل التركيبة السكانية، خصوصاً في مناطق شهدت تهجيراً قسرياً أو تغييرات ديموغرافية ممنهجة، فتجنيس آلاف المسلحين وتوطينهم مع عائلاتهم في مناطق إستراتيجية قد يُستخدم لتغيير الهُوية السكانية لتلك المناطق، مما يهدد النسيج الوطني ويؤسس لانقسامات مذهبية وعرقية يصعب تجاوزها لاحقاً.
كما أن دخول عناصر غير سوريّة إلى الجيش، وخصوصاً أولئك الذين نشأوا على أيديولوجيات طائفية عابرة للحدود، يعني خلق جيش داخلي بولاءات مشكوك فيها، لا تدين بالولاء لسوريا الدولة، بل لقادة دينيين أو سياسيين من خارج الحدود، هذا يُعيد إنتاج نموذج “الميليشيا داخل الدولة”، وهو ما قد يُضعف الانضباط العسكري ويعزز ظاهرة الجيوش الموازية.
يأتي ذلك في وقتٍ تشهد فيه سوريا عملية سياسية معقدة تتباين فيها الاتجاهات والغايات، وعلى هذا؛ فإن إدماج المسلحين الأجانب في مؤسسات الدولة، ومنحهم الشرعية القانونية، يُشكل عقبة في وجه المصالحة الوطنية، إذ تُعمّق هذه الخطوة من الإحساس بالعدالة الاجتماعية لدى السوريين، الأمر الذي ينعكس على جهود إعادة بناء الثقة بين المكونات المجتمعية المختلفة حتى وإن حظيت هذه الإجراءات – أي التجنيس – بالصمت من جانب المجتمع الدولي الذي يندفع نحو دعم السلطة القائمة ويتغاضى عن مثل هذه الإجراءات.
أخيراً، فإن تجنيس المسلحين الأجانب في سوريا ليس مسألة تقنية أو إدارية، بقدر ما هو اتجاه عام ذو أبعاد استراتيجية عميقة، يمسُّ جوهر الدولة والمجتمع ومستقبل البلاد. إن التغاضي عن هذه الظاهرة أو تبريرها تحت ذريعة دعم الدولة في محاربة “الإرهاب” أو حتى رد الجميل كون هؤلاء المسلحين ساندو السلطة الحاكمة في وصولها لسدة الحكم، إنما يُشكّل خطراً مستداماً على وحدة سوريا وسيادتها، ويزيد من تعقيد المشهد السوري، الذي يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى مصالحة حقيقية وسيادة كاملة دون نفوذ خارجي.