محمد عيسى
بين تعيين أحمد الشرع نفسه رئيساً للبلاد دون انتخابات، وتثبيت رموز النظام السابق في التشكيلة الحكومية الجديدة، وإسناد المناصب الحساسة للمقربين والأقارب، تتكشّف ملامح نظام يتجدّد بأدوات قديمة، حاملاً في جوهره العقلية ذاتها التي حكمت سوريا لعقود. فهل تغير شيء فعلاً؟ أم أن البلاد عادت إلى حلقة جديدة من الحكم العائلي والإقصائي؟
إعلان الرئاسة دون صناديق
في 29 كانون الثاني 2025، أعلنت وسائل الإعلام الرسمية في دمشق نبأ تعيين أحمد الشرع نفسه رئيساً لسوريا. لم يكن هناك تصويت، ولا استفتاء، ولا حتى استعراض ديمقراطي يُشبه ما كان يجري في العهود السابقة. كانت الخطوة صريحة، حاسمة، ومباشرة: رئيس انتقالي يقرر البقاء، ويعلن نفسه رئيساً باسم “الاستقرار”، و”المصلحة الوطنية العليا”، حسب ما ورد في البيان الرئاسي الصادر حينها.
لكن في الذاكرة السورية، تعود هذه المشاهد إلى لحظات مشابهة جرت منذ ربع قرن، حين أعلن مجلس الشعب السوري، في العاشر من تموز 2000، تعيين بشار الأسد رئيساً للجمهورية بعد تعديل الدستور خلال دقائق معدودة، فقط ليتوافق مع سنه آنذاك، كما اليوم، لم يُمنح الشعب السوري أي خيار حقيقي.
قرار الشرع كان الإعلان الرسمي لعودة منظومة الاستفراد بالسلطة بصيغتها الأكثر صراحة، محاطاً بمجموعة من المستشارين المقرّبين، والجنرالات، ورجال الأعمال، الذين لا يتجاوزون دوائر الثقة الضيقة، كما كان الحال أيام حافظ الأسد، ومن بعده نجله بشار.
في الخطاب الذي تلا الإعلان، تحدث الشرع عن “ضرورة حماية المكتسبات الوطنية”، وعن “مرحلة تحتاج إلى الحزم”. المصطلحات نفسها التي كانت تتكرر في الخطابات الرئاسية منذ سبعينات القرن الماضي، وإن اختلفت الوجوه، فالذهنية الحاكمة لم تتغير.
وتأخذ المسألة بعداً إضافياً مع إلغاء منصب رئاسة الوزراء، ورئيس الجمهورية يتولى مهمة رئيس مجلس الوزراء وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وكذلك هو رئيس مجلس الأمن القوميّ، وهكذا تم منح متصب الرئاسة صلاحيات واسعة أكثر مما هو متعارف عليه، باسم الضرورة الوطنيّة والظروف الحالية.
أسماء قديمة في واجهات جديدة
بعد أقل من شهرين، وتحديدًا في 29 آذار 2025، أعلنت سلطة دمشق التشكيلة الحكومية الجديدة. وعلى الرغم من الأجواء الإعلامية، التي حاولت تصوير الحكومة كـ”مرحلة انتقالية” نحو إصلاح سياسي، فإن الأسماء التي تصدرت المشهد كانت مألوفة جداً، بل ومزعجة للكثير من السوريين.
اللافت في هذه التشكيلة هو احتفاظ أسعد الشيباني بمنصب وزير الخارجية، ومرهف أبو قصرة بحقيبة الدفاع؛ وكلاهما شخصيتان مقربتان من أحمد الشرع، وشغلا مناصب قيادية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. ووجودهما على رأس الوزارات السيادية أوحى للسوريين بأن “الوجوه تتغير، لكن القالب ثابت”.
بل إن إعادة تدوير الأسماء امتد إلى بقية الوزارات، حيث تم تعيين أنس خطاب وزيراً للداخلية، ومظهر الويس وزيراً للعدل، فيما تولى نضال الشعار حقيبة الاقتصاد والصناعة، ورائد الصالح – المدير السابق لمنظمة “الخوذ البيضاء” – وزارة الطوارئ والكوارث، بينما تم إسناد وزارة المالية إلى محمد يسر برنية، والطاقة إلى محمد البشير، والشؤون الاجتماعية والعمل إلى هند قبوات.
في الظاهر، يبدو أن هناك تنوعاً جزئياً في الخلفيات، بين أمنيين وتكنوقراط وناشطين سابقين. لكن؛ عند التدقيق، يتبيّن أن هؤلاء جميعاً ينتمون إلى الدوائر الضيقة للسلطة الجديدة، وهو ما جعل قطاعات واسعة من السوريين ترى في الحكومة الجديدة إعادة إنتاج لنهج الأسد، لا قطيعة معه.
وتُذكّرنا هذه التشكيلة بتشكيلات حكومية سابقة كانت تمر عبر القنوات الأمنية والسياسية، حيث تُمنح المناصب حسب درجة القرب من الحاكم، لا على أساس الكفاءة أو التمثيل الشعبي.
إعادة إنتاج العائلة
لم تكن الأنباء التي انتشرت يوم الثالث من نيسان 2025 عن تعيين ماهر الشرع، شقيق أحمد الشرع، في منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، مجرد خبر إداري عادي يمرّ ضمن تسلسل التعيينات الحكومية، بل كانت الصدمة السياسية التي أيقظت ذاكرة السوريين على نمط حكم مألوف، قائم على الولاء العائلي لا المؤسسية. فقد شكّل هذا التعيين، في توقيته ودلالاته، دليلاً إضافياً على أن النظام الجديد الذي نشأ بعد انهيار منظومة الأسد، لم يقطع فعلياً مع جوهر تلك المنظومة، بل استعاد أسوأ ما فيها: حكم العائلة والمقربين.
إن منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية في سوريا ليس وظيفة رمزية، بل يعد من المناصب الرفيعة والمفصلية في إدارة الدولة، وقد تم استحداثه نهاية عام 2023، بعد إلغاء “وزارة شؤون رئاسة الجمهورية”. وبالتالي فهو يعادل منصب وزير، ومهمته التنسيق الإداري والتنظيمي داخل القصر الجمهوري، وهو حلقة وصل مباشرة بين الرئيس ومؤسسات الدولة. وبذلك فهو منصب شديد الحساسية، إذ يُشرف على تفاصيل العلاقة بين رأس الدولة ومؤسساتها التنفيذية، ويتولى صياغة المراسيم، وتنظيم اللقاءات، ومتابعة تنفيذ السياسات العليا. وحين يُسند هذا الموقع إلى شقيق الرئيس، دون مشاورات معلنة أو معايير كفاءة واضحة، فإن الرسالة السياسية التي تُرسل إلى الداخل والخارج معاً هي أن الدولة لا تزال تُدار من غرفة العائلة، لا من مؤسسات الحكم.
الأمر لا يتوقف عند ماهر الشرع بوصفه أخاً للرئيس، بل يمتد إلى خلفيته، إذ شغل سابقاً منصب وزير الصحة بالوكالة في حكومة محمد البشير (16 كانون الأول 2024)، من دون أن يمتلك أي سجل طبي أو إداري معروف. ثم نُقل إلى قصر الرئاسة بمنطق الترفيع العائلي، لا التدرج المهني. وهو ما يعيد إلى الأذهان التعيينات التي شهدتها سوريا في عهد حافظ الأسد، حين تحوّلت الدولة إلى امتداد للعائلة، ومسرحاً لتبادل المواقع بين الأبناء والأصهار والإخوة. وتداول سوريون على سبيل التندر والسخرية عبارة “ذهب ماهر وجاء ماهر!”.
وفي سياق التعيينات العائلية أيضاً تم تعيين حازم الشرع، وهو شقيق ثانٍ لأحمد الشرع، رئيسًا لهيئة الاستثمار، وهي المؤسسة المسؤولة عن جذب رؤوس الأموال وتوجيه الاقتصاد في مرحلة إعادة الإعمار الحاسمة. وتم تداول اسم أويس الشرع وهو من دائرة القرابة، وتم تعيينه مسؤولاً عن أمن القصر الجمهوريّ، وهو منصب يمنح نفوذًا كبيرًا داخل الدائرة الرئاسية.
وتجاوزت التعيينات دائرة الأشقاء لتشمل أحمد الدروبي، شقيق زوجته لطيفة الدروبي والذي تم تعيينه أمينًا لصندوق البنك المركزي، وهو منصب مهم جداً في إدارة السياسة النقدية واستقرار الاقتصاد الوطنيّ، وتم تداول تعيين شقيق ثانٍ لزوجة الشرع لم يُذكر اسمه مسؤولاً عن ميناء اللاذقية دون قرار رسميّ. واكتمل المشهد العائليّ بتعيين عديل الرئيس وابن خالته، ماهر مروان، محافظًا لدمشق، وهي عاصمة البلاد ومركز ثقلها السياسي والإداري والثقافي للبلاد.
مقارنة التعيين الجديد بما جرى في عهد بشار الأسد ليست مجرد تحامل، بل واقع مدعوم بالوقائع: فحين عيّن بشار شقيقه ماهر قائداً للفرقة الرابعة، وزوّج شقيقته بشرى من آصف شوكت الذي تسلّم إدارة المخابرات، كانت سوريا تدخل فعلياً في عصر الدولة العائلية المغلقة. واليوم، في عهد أحمد الشرع، تتكرر القصة نفسها بطريقة تكاد تكون نسخة طبق الأصل، وكأن قدر السوريين أن يدوروا في حلقة حكم واحدة، يتبدل فيها الرأس، لكن الجسد يبقى هو ذاته، بعقليته، وشبكاته، وآليات إنتاجه.
أين الشعوب السورية من السلطة؟
بينما كانت الآمال معقودة على أن تشكّل حكومة آذار 2025 نقطة تحوّل حقيقية في مسار المرحلة الانتقالية في سوريا، بما يعكس طبيعة المجتمع السوري المتعدد قوميًا ودينيًا وسياسيًا، جاءت التشكيلة المعلنة في 29 آذار كصفعة جديدة للشارع السوري، لا سيما في المناطق التي دفعت ثمنًا باهظًا خلال سنوات الصراع من أجل نيل الاعتراف والتمثيل. ولم تحمل التشكيلة أي مفاجآت إيجابية، بل جسّدت من جديد الإقصاء المنهجي ذاته الذي عانى منه السوريون منذ عقود. فالشعب الكردي، الذي لعب دورًا بارزًا في الدفاع عن المناطق الشمالية والشمالية الشرقية منذ عام 2012، لم تُمنح أي حقيبة وزارية أو موقع فعلي ضمن هيكلية القرار. الأمر نفسه انسحب على الشعبين التركماني والسرياني، وحتى القوى العربية المعارضة التي برزت بعد انتفاضة 2011 وجُرّدت من دورها لاحقًا، لم تجد لنفسها مكانًا ضمن خريطة السلطة الجديدة.
في قامشلو وكوباني، خرجت مظاهرات واسعة بين 30 و31 آذار، رُفعت فيها شعارات مثل “لا مركزية لا تهميش” و”لا نُلدغ من الجحر مرتين”، في إشارة صريحة إلى خيبة الأمل من تكرار نماذج الحكم الاستبعادية. بينما شهدت السويداء في الأول من نيسان تجمعات احتجاجية أمام مقر “الهيئة المدنية للإدارة المحلية”، طالبت فيها فعاليات درزية وشبابية بإعادة النظر في تمثيل الجنوب السوري، متهمة الرئاسة الجديدة بأنها تعيد إنتاج عقلية دمشق المركزية التي طالما همّشت المحافظات.
اللافت أن هذه السياسات تُعيد إلى الأذهان محطات إقصاء بارزة في التاريخ السوري المعاصر، أبرزها ما جرى بعد انتفاضة 12 آذار 2004 في قامشلو، حين قمعت السلطات الأمنية مظاهرات الكرد عقب مباراة لكرة القدم، ثم شنّت حملة اعتقالات واسعة استهدفت النشطاء والمثقفين، ولم تعترف الدولة حينها بأي بعد قومي أو سياسي للمطالب الكردية. واليوم، يتكرر السيناريو نفسه بشكل أكثر دهاءً: لا قمع علني، بل تهميش ناعم عبر التعيينات والإقصاء الصامت من مراكز النفوذ.
وإلى جانب هذا التهميش السياسي، لجأت السلطات الجديدة منذ مطلع نيسان 2025 إلى إصدار قرارات إدارية وأمنية تهدف إلى ضبط الخطاب العام، منها تعميم صادر عن وزارة الإعلام بتاريخ الثاني من نيسان يفرض على وسائل الإعلام “التقيد بالخطاب الوطني الوحدوي”، وتوجيهات من وزارة الداخلية تمنع تسجيل أي حزب سياسي ما لم ينل موافقة الأمانة العامة للرئاسة. وهو ما يؤكد أن النظام الجديد، من حيث الجوهر، لم يغادر عقلية الحكم الواحد، بل أعاد ترتيب أوراقه بما يسمح له بإعادة إنتاج منظومة الحكم على الصورة القديمة ذاتها، ولكن تحت أسماء جديدة.
المرحلة الانتقالية المزعومة
أطلقت دمشق، في بداية عام 2025، مسارًا إعلاميًا حمل عنوان “المرحلة الانتقالية”. قيل إنها ستقود سوريا نحو دستور جديد، وانتخابات، وحكومة تمثل الجميع. لكن؛ الوقائع على الأرض تدحض هذه السردية.
فمنذ تعيين أحمد الشرع رئيساً للسلطة الانتقالية، لم تُعلن أي خارطة طريق واضحة. بل بالعكس، تمت عسكرة السياسة، وإغلاق الفضاء المدني، ومواصلة الحكم عبر المراسيم، دون إشراك أي طرف سياسي حقيقي.
السياسة نفسها اتبعها بشار الأسد بعد 2011، حين وعد بالإصلاح، ثم حوّل البلاد إلى سجن أكبر. واليوم، يعيد الشرع السيناريو نفسه، مستنداً إلى سردية “الحرب على الإرهاب”، و”حماية مؤسسات الدولة”، وهي الحجج ذاتها التي استخدمها النظام السابق لتبرير قمعه.
في ظل غياب جدول زمني للانتخابات، واستمرار تعيين المسؤولين وفق الولاء لا الكفاءة، واحتكار المناصب من شخصيات مقرّبة من رأس السلطة، تبدو “المرحلة الانتقالية” مجرّد عنوان فارغ يُستخدم لتجميل واقع الاستبداد القائم.
وهو ما يعيد السؤال الجوهري: من يحكم سوريا الآن؟ وهل تغيّرت العقلية الحاكمة حقاً؟ أم أننا نعيش نسخة أخرى من حكم آل الأسد ولكن باسم جديد هذه المرة “آل الشرع”.
بعد خمسة أشهر على سقوط نظام الأسد، لم تتغير قواعد اللعبة في دمشق. فما نشهده اليوم ليس سوى إعادة تموضع للطبقة الحاكمة، بذهنية الإقصاء، والاستفراد، والعائلة. من تعيين أحمد الشرع نفسه رئيسًا للسلطة الانتقالية، إلى تعيين شقيقه، إلى منح الوزارات السيادية للمقرّبين، كلها مؤشرات على أن المرحلة المقبلة ستكون امتدادًا لتلك التي سبقتها.
وفي ظل غياب تمثيل حقيقي للشعوب السورية كافة، وغياب الشفافية في آليات الحكم، وغياب أي وعود قابلة للقياس أو المساءلة، يبدو أن السوريين أمام معركة طويلة من أجل تحقيق الشراكة الفعلية، لا مجرّد تبديل أسماء في واجهة مشهد قديم.