عبد الرحمن ربوع
تحتاج القضايا الكبرى والمصيرية لحلول كبرى وجذرية. وسوريا اليوم بعد زوال نظام البعث وما خلّفه من دمار شامل بحاجة إلى إعادة إعمار الدولة والمجتمع، بالتوازي مع إعادة إعمار البلد، وإعادة أهلها المهجرين والنازحين واللاجئين. لكن؛ حتى الآن لم نلمس على طريق الحل لهذه المعضلات سوى المسكّنات المؤقتة لأوجاع مستعصية، والتسكين لأوضاع قلقة.
وفيما ينصبُّ التركيز على نيل الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية، وعلى رفع العقوبات الدولية عنها وعن مؤسسات الدولة؛ يتم تجاهل أو تأجيل التعامل مع المشكلات الداخلية الأساسية، وعلى رأسها استعادة اللحمة المجتمعية، وإعادة بناء الجسور بين مكوّنات المجتمع السوري، وهذا يحتاج جهودًا مركزة وحثيثة وجماعية. كما يحتاج دَفعة أو مساعدة خارجية على شكل وساطات وتسهيلات وحوامل ودعم للاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي.
إن التعامل مع الآلام والأوجاع دون التعامل مع المرض نفسه لا يشفي مريضًا ولا يعالج عليلًا، ولا وجود لمشكلات لا يمكن حلها، كما لا يمكننا حل مشكلةٍ باستخدام نفس العقلية التي أوجدت أو تسببت بتلك المشكلة. وحتى الآن هناك بعض النجاحات على صعيد حل المشكلات الصغيرة، مع تأجيل للمشكلات الأكبر والأخطر، وهذه استراتيجية بنّاءة وجيدة، حيث تم البدء بإيجاد حلول للقضايا الصغيرة وصولًا للقضايا الأكبر بالتدريج، ويجب أن لا تشغلنا الامتحانات الصغيرة، ولا يُنْشينا الزهوّ بالنجاحات المؤقتة عن خوض التحدّيات الكبرى، والتوقف في هذه المرحلة خطير جدًا، لأنه سيفاقم الأمور، وقد تنتكس الحلول السابقة وتذهب أدراج الرياح، ويضيع كل ما بُذل فيها من جهد إذا ما لم يتم إكمال مشروع التسوية الوطنية الشاملة لكل القضايا والمشاكل التي تعيق مسيرة التعافي والاستقرار وإعادة إعمار الدولة والمجتمع والبلد.
إن كل الشعوب السوريّة، بما فيها العرب السنة، تجد المرحلة الحالية فرصة سانحة لترسيخ وتثبيت وصولها إلى حقوقها دستوريًا وعُرفيًا والقطيعة تمامًا مع عهود الاستبداد والإقصاء الماضية، وكذلك كل المكوّنات تعتقد الشيء نفسه وتطمح إليه. وهذا بطبيعة الحال لا يتعارض مع طموحات كل الشعوب مجتمعة لأنها جميعًا تصبّ في النهاية في بوتقة العدالة والمساواة والتعايش التي هي مطلب للجميع.
قد يكون من الصعوبة بمكان على الحكومة الانتقالية بنمطيتها وبهيكليتها الحالية رعاية أو قيادة حلول شاملة ومستدامة للقضايا السوريّة المصيرية وأهمها وحدة البلد، وتعايش مواطنيه في سلام، وتقاسم الثروة بعدالة واحترام الخصوصية القومية والدينية والمذهبية لكل شعب، والسبب ليس فقط في خلفية أو طبيعة أو نمط تفكير السلطة الحالية فقط، بقدر ما يُضاف إليه من تيارات داخلية تحثُّ وتصرُّ على إعادة إنتاج نظام سياسي أحادي الرؤية لكن هذه المرة بمسحة متطرفة دينية، بالإضافة إلى عوامل خارجية تدفع باتجاه التعقيد وإعادة إنتاج نهج الاستبداد والإقصاء.
كما إن السوريين وخصوصًا خلال السنوات الثلاث عشرة الفائتة خبِروا واختبروا نظام الإدارة المحلية والإدارة الذاتية في معظم المناطق، ما عدا منطقة الساحل، لأنها الوحيدة التي كان مُسيطَراً عليها من قبل النظام السابق ولم تنخرط في نظام الإدارة المحلية الذي تم تطبيقه في “المناطق المحررة”. وأصبح صعبًا على السوريين التخلي عن هذه المكاسب التي ذاقوا فوائدها، ولمسوا أفضليتها في إدارة مناطقهم، وفق مبادئ الديمقراطية والنزاهة والكفاءة.
ليسوا هم وحسب؛ بل حتى السوريين الذين هاجروا ولجأوا إلى تركيا وأوروبا وتعايشوا ضمن العديد من نماذج اللامركزية الإدارية ومارسوها وطبقوها. بل إن بعضهم وصل بالفعل إلى مناصب إدارية وحكومية وبرلمانية عُليا في دول المنفى. وهذه التجارب ترسخت في وعي وفي لاوعي كل السوريين إنه بالإمكان بناء سوريا دولة قوية مستقرة إذا تم تعميم وترسيخ الديمقراطية المحلية والشاملة كنظام إدارة وحكم، وعلى السلطة الحالية مجاراة الشارع السوري لا التأخر عنه كي لا تسقط كما سقط سلفها.