محمد عيسى
ثلاث سنوات مرّت على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتحوّلت خلالها الجبهات خرائط متبدّلة، والدمار إلى مشهد يومي في مدنٍ كانت تنبض بالحياة. في أيار 2025، وفي محاولة جديدة لكسر الجمود السياسي، اجتمع طرفا النزاع في إسطنبول، لأول مرة منذ سنوات، وسط رعاية تركية واهتمام أميركي لافت. وبينما كانت الصواريخ لا تزال تُطلَق، كانت الوفود تتفاوض، والأسرى يُبادَلون، والمواقف تُعلَن من موسكو وواشنطن وكييف. فهل اقتربت نهاية الحرب، أم أن السلام ما زال رهينة شروط مستحيلة؟
العد العكسي للدمار
في السادس عشر من أيار 2025، عادت إسطنبول لتكون مجددًا ساحة اللقاء بين الشرق والغرب، ليس في خطب الاحتفال، بل في اجتماعاتٍ مغلقةٍ يملؤها التوتر ويُراقبها العالم بقلق.
في قصر “دولمة بهجة”، انطلقت أول محادثاتٍ مباشرة بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات، برعاية تركية وبتواجدٍ أميركي بارز، في محاولةٍ لإنقاذ ما تبقى من سلامٍ مفقود.
مصادر وزارة الخارجية الأوكرانية أكدت أنّ الاجتماعات جمعت وزراء خارجية الدول المعنية وعددًا من كبار الدبلوماسيين. السياق مختلف، والحرب الدامية التي دخلت عامها الرابع تجعل من أي طاولة حوارٍ ساحة اختبارٍ صعب. التباينات بين موسكو وكييف بقيت حادة، والمواقف شديدة الصلابة، حتى أن وصفَ مسؤولٍ أوكراني للمطالب الروسية بأنها “شروط غير قابلة للتنفيذ” بدا عنوانًا مُختصرًا للفشل المبكر.
وحسب مسؤول أوكراني تحدّث لوكالة رويترز، فإنّ الروس تقدموا بمجموعة شروط كان أبرزها انسحاب الجيش الأوكراني من المناطق التي تطالب بها موسكو: دونيتسك، زابوريجيا، خيرسون، ولوغانسك. هذه المناطق التي تقع اليوم في حالة سيطرة جزئية أو كلية من الجانب الروسي، تُشكّل جوهر الأزمة العسكرية والسياسية. ولم تكتفِ موسكو بذلك، بل طالبت باعترافٍ دولي بسيادتها على خمس مناطق أوكرانية، تشمل إلى جانب الأربعة السابقة، شبه جزيرة القرم، التي ضُمّت إلى روسيا عام 2014.
المفاوض الأوكراني الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه، أشار إلى أن الأميركيين اقترحوا في مسوّدة غير رسمية اعترافًا فقط بالسيطرة الروسية بحكم الأمر الواقع على القرم، وبعض الأجزاء الأخرى التي تسيطر عليها موسكو في بقية المناطق، دون منحها شرعية قانونية كاملة. ذلك، في حد ذاته، لم يكن مقبولًا لا لموسكو ولا لكييف.
روسيا من جهتها أصرت على حياد أوكرانيا الكامل، وعلى ألا تتمركز أي قوة غربية أو تابعة لحلف الناتو على الأراضي الأوكرانية مستقبلًا. كما شددت على أن تُصبح أوكرانيا خالية من أسلحة الدمار الشامل. والأكثر تعقيدًا كان المطلب الروسي بإسقاط المطالبات بالتعويضات عن أضرار الحرب، من كافة الأطراف.
وفيما وصفه البعض بأنه اختبارٌ أولي للنوايا، أفاد المسؤول الأوكراني أن هذه المطالب قُدمت شفهيًا فقط، دون أي وثيقة رسمية، ما أثار تساؤلات كثيرة عن جدية الطرف الروسي.
اتصالات رفيعة المستوى
بعد ثلاثة أيام على انطلاق الجولة الجديدة من محادثات السلام في إسطنبول، وتحديدًا في 19 أيار 2025، كشفت مصادر في البيت الأبيض عن اتصالٍ هاتفي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. الاتصال الذي تم بطلب من الجانب الأميركي، تمحور حول آخر تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وأثار موجة اهتمام دولي، خصوصًا مع إعلان ترامب نيّته التحدث أيضًا مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال الأيام المقبلة. هذا الحراك المفاجئ في الخط الساخن بين موسكو وواشنطن فتح الباب أمام تساؤلات حول مدى انخراط الولايات المتحدة مستقبلًا في مسار الوساطة، ومدى قدرتها على كسر حالة الجمود التي خيّمت على المحادثات.
في موسكو، بدا الكرملين أكثر تحفظًا إزاء ما يجري. المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، وخلال إيجاز صحفي في اليوم ذاته، قال، إنه “لا توجد تحضيرات لعقد قمة بين بوتين وترامب في الوقت الحالي”، رغم تأكيده وجود اتصالات متواصلة بين الجانبين على مستويات مختلفة.
وفي واشنطن، خرج نائب الرئيس الأميركي، جيه. دي. فانس، في 20 أيار الجاري، بتصريحات صريحة قال فيها: إن بلاده “تُدرك تمامًا أن المحادثات وصلت إلى طريق مسدود”، مضيفًا أن “الجانب الروسي لا يبدو جادًا في إنهاء الحرب، والنوايا التي يُبديها الكرملين لا توحي بأي رغبة حقيقية في السلام”.
لكن في خضم هذا الانسداد السياسي، سجلت تطورات ميدانية وإنسانية لافتة. ففي يوم الجمعة، 23 أيار 2025، أعلنت وزارتا الدفاع في روسيا وأوكرانيا، وبشكل متزامن، تنفيذ أكبر عملية تبادل أسرى منذ اندلاع الحرب في 24 شباط 2022. العملية شملت الإفراج عن 390 شخصًا، بينهم 270 جنديًا و120 مدنيًا من الجانبين، مع الإعلان عن نية الطرفين متابعة عمليات التبادل خلال الأيام المقبلة.
وحسب تقرير صادر عن “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” (IISS) في لندن بتاريخ 24 أيار، فإن هذا التبادل يُعد أول نتيجة ملموسة ناتجة عن محادثات إسطنبول الجارية، مشيرًا إلى أن الاتفاق المبدئي الموقع في اليوم الثالث من المحادثات يتضمن خطة طموحة لتبادل ألف أسير من كل طرف، على دفعات متتالية، تمتد حتى منتصف حزيران المقبل. التقرير وصف هذا التقدم بأنه “علامة أولى على أن المفاوضات لم تذهب سُدى بالكامل، رغم استمرار التباعد في المواقف السياسية”.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب علق مساء 23 أيار على هذه المبادرة: “هل تكون بداية لأمرٍ كبير؟”، ملمّحًا إلى أن هذه الخطوة الإنسانية قد تمهّد الطريق أمام اتفاق مبدئي لوقف إطلاق النار، ولو بشكل مؤقت.
أما في موسكو، فقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 24 أيار بأن بلاده “ستكون مستعدة لتقديم مسودة اتفاق سلام إلى كييف، فور الانتهاء من عمليات تبادل الأسرى”، وأن “بناء الثقة من خلال هذه الإجراءات شرطٌ أولي للانتقال إلى المستوى السياسي من المفاوضات”.
من جهتها، أعلنت أوكرانيا في بيان رسمي صدر عن مكتب الرئيس زيلينسكي بتاريخ 25 أيار، استعدادها للدخول في وقف إطلاق نار مؤقت مدة ثلاثين يومًا، تبدأ بمجرد إتمام الجولة الثانية من التبادل. إلا أن موسكو لا تزال تصرّ على تنفيذ شروطها كاملة – وهي تتضمن، بحسب تصريحات روسية سابقة، “ضمان حياد أوكرانيا التام، والاعتراف الروسي بالسيطرة على المناطق الأربعة المُتنازع عليها” – وهي شروط ترفضها كييف جملةً وتفصيلًا، وتصفها بأنها “مطالب استسلام مستحيلة التنفيذ”.
صدمة على الأرض
بعد مرور 48 ساعة فقط على عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، التي أُعلنت كبادرة أمل لإحياء مسار التهدئة، عادت الحرب تفرض حضورها العنيف وبقوة أكبر من ذي قبل، وكأن صوت المدافع والطائرات لا يزال يعلو فوق أي نداء للسلام. ففي ساعات ليل 25 أيار، تعرّضت أوكرانيا لهجوم جوي روسي ضخم، وُصف من السلطات الأوكرانية والمراقبين العسكريين بأنه الأعنف منذ بداية الحرب في شباط 2022. الهجوم الكاسح خلف وراءه دماراً كبيراً و12 قتيلًا على الأقل، من بينهم ثلاثة أطفال، فضلًا عن عشرات المصابين، في مشهد يُعيد إلى الأذهان الأيام الأولى من الغزو.
الهجوم الروسي استهدف العاصمة كييف ومدنًا أوكرانية أخرى بوابل من الطائرات المسيّرة والصواريخ، بلغ عددها حسب المصادر الأوكرانية 367 سلاحًا هجوميًا بين طائرات مسيّرة من طراز “شاهد” وصواريخ كروز وصواريخ باليستية. ورغم إعلان سلاح الجو الأوكراني عن إسقاط 266 مسيرة و45 صاروخًا، إلا أن الأضرار كانت كبيرة. في كييف، أعلن رئيس الإدارة العسكرية، تيمور تكاتشينكو، إصابة أحد عشر شخصًا نتيجة الهجمات، دون تسجيل أي وفيات داخل العاصمة نفسها، غير أن أربعة أشخاص لقوا حتفهم في محيطها.
وفي خاركيف، شمال شرق البلاد، أُصيب ثلاثة مدنيين بجروح متفاوتة إثر سقوط شظايا ناتجة عن قصف جوي، بينما شهدت ميكولايف، جنوبًا، مقتل رجل مسن وإصابة خمسة آخرين. أما في منطقة خملنيتسكي الغربية، فقد كانت الحصيلة أكثر قسوة، إذ قُتل أربعة أشخاص وأصيب خمسة آخرون بجروح بالغة.
من جهتها، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن دفاعاتها الجوية تصدت لـ95 طائرة مسيّرة أوكرانية و12 أخرى كانت متجهة إلى موسكو، كما أكدت سيطرة قواتها على قرية رومانيفكا في دونيتسك، في مؤشر واضح على استمرار العمليات العسكرية البرية، رغم كل ما يُقال عن مساعٍ للتهدئة أو خفض التصعيد.
ترامب يستشيط غضبًا
وفي أعقاب المجزرة الجوية التي وقعت، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اليوم التالي من القصف العنيف بتصريحاتٍ نارية حملت غضب واشنطن من تصاعد القصف الروسي، قائلاً إنه يشعر بـ”الاستياء العميق” تجاه الرئيس فلاديمير بوتين، واصفًا الهجوم الأخير بأنه “تصعيد دموي خطير” يقوّض المساعي الدبلوماسية التي تشهدها الساحة منذ أسابيع. وفي اليوم ذاته، حاول الكرملين ضبط الإيقاع السياسي بتصريحاتٍ متوازنة، حيث أعلن المتحدث باسمه، دميتري بيسكوف، أن روسيا “تعمل بجد” على مسودة اتفاق سلام مع أوكرانيا، كاشفًا أن الوثيقة ما تزال قيد الإعداد ولم تُقدَّم رسميًا بعد، لكنها “جادة وتتطلب مراجعات دقيقة”.
غير أن الموقف الروسي لم يخلُ من نبرة تصعيدية موازية. ففي 26 أيار الجاري، جدّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف موقف موسكو الرافض لأي تقديم رسمي للمسودة قبل الانتهاء من ملف تبادل الأسرى، متهمًا كييف وحلفاءها بالمماطلة، وبأنهم “يتذرّعون بنوايا موسكو” لتأخير التقدم الفعلي نحو التسوية. وبالتزامن، شن الكرملين هجومًا سياسيًا على القرار الأوروبي الأخير المتعلّق بتسليم أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى، واصفه بـ”التحرك الخطير الذي يتعارض مع الجهود السياسية لحل الأزمة”.
وهكذا، حمل 26 أيار معه لحظة انكشافٍ عارية: روسيا تتحدث عن السلام وتطلق الصواريخ، والولايات المتحدة تدين وتراقب، وأوروبا تُسلّح وتحذّر. في هذا التوقيت المزدحم بالتناقضات، بدت مسودة الاتفاق كوثيقة رمزية أكثر منها خارطة طريق، رهينة الحسابات لا المبادئ، ومعلّقة بين جولات تفاوض لم تثمر، وغارات جوية تغيّر موازين الأرض. كلمات لافروف عن الأسرى، وغضب ترامب على الهواء، لم تحجب الحقيقة الأوضح: لا أحد يمسك بزمام النهاية. ففي صراعٍ تحكمه القوة وتغلفه اللغة الدبلوماسية، يبقى السلام احتمالاً هشًّا، مؤجَّلاً، لا تكتبه المسودات… بل تفرضه وقائع الميدان إن أرادت الأطراف أخيرًا أن تصغي.