صلاح الدين مسلم
ليست اللغة مجرد وسيلة اتصال بين الناس، بل تعدُّ وعاء للذاكرة، ومخزون الوجدان، ومرآة الهوية. فيها تتشكل رؤيتنا للعالم، وتنمو مفاهيمنا عن الذات والآخر، وتتداخل الأزمنة في نسيج موحد يحمل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. إنها ليست مجرد كلمات تُلفظ أو تُكتب، بل هي فعل حياة، وسلوك وجود.
شهد العالم في القرن العشرين ثورات لغوية هائلة، كان أعظمها إحياء اللغة العبرية، تلك اللغة الميتة التي لم تستخدم إلا في الطقوس السرية، والعالقة في ذاكرة اليهودي كحلم، ولم يصدق يوماً أن يتحدث بها ملايين الناس. فحتى أواخر القرن التاسع عشر، كان عدد الناطقين بالعبرية كلغة محكية معدوماً تقريباً، إذ كانت تُستخدم كلغةٍ دينية وصلوات فحسب، لكن بحلول عام 1948، مع قيام دولة إسرائيل، صارت العبرية لغة رسمية يتحدث بها حوالي 600,000 شخص، واليوم يتحدث بها أكثر من 9 ملايين شخص كلغة أولى، هذا التحول كان ثمرة إرادة سياسية وثقافية شاملة، وخطة ممنهجة للتعليم والبحث العلمي، بقيادة شخص واحد اسمه (إليعازر بن يهودا) وجاء بعده العديد من الأكاديميين.
على الجانب الآخر، شهدت تركيا في عشرينيّات القرن الماضي ثورة لغوية من نوع مختلف، حيث ألغيت الأبجدية العربية القديمة واستُبدلت باللاتينية عام 1928، ما أسهم في رفع نسبة القراءة والكتابة من 10% إلى أكثر من 90% خلال بضعة عقود، في إطار بناء هوية قومية حديثة.
في الجانب الآخر من العصر المظلم الذي منع اللغة الكردية، وحاربها كأنّها وباء يتفشّى في الدول التي قسّمت كردستان. إنّها اللغة التي حاولت أن تُخنق، وتُمنع من التعليم، ومازالت تحارب، ويحاول محاربوها أن يمحوها من الخرائط السياسية واللغوية، لكنّها تقف اليوم أمام فرصة مشابهة، فعلى الرغم من أنّ أكثر من 100 مليون كردي يتحدث بها في مناطق مختلفة (تركيا، سوريا، العراق، إيران، والشتات)، إلّا أنّ نسبة التعليم الرسمي، والكتب العلمية المتوفرة بالكردية لا تزال متواضعة، فوفقاً لبعض الدراسات فإنّ أقل من 15% من الأطفال الكرد في تركيا يتلقون تعليماً رسمياً باللغة الكردية، بسبب القيود السياسية والقانونية.
لكن التجارب العالمية تؤكد أنّ اللغة لا تموت إلا عندما يُحرم الناطقون بها من التعليم والإعلام والإنتاج الثقافي. إذْ يمكن للغة الكردية أن تستفيد من تجربة العبرية وتُطلق ثورة لغوية حقيقية عبر:
اعتماد نظام تعليمي رسمي متكامل بالكردية في المدارس.
ترجمة الكتب العلمية والتربوية بشكل واسع.
بناء معاجم حديثة وغنية تعكس حاجات الحياة المعاصرة.
دعم الإعلام الرقمي والإذاعات والقنوات التلفزيونية باللغة الكردية؛ خلق حراك ثقافي يدعم إنتاج الأدب والبحث العلمي.
في النهاية، إنّ أيّ كلمة كردية تُكتب وتُقرأ، هي خطوة نحو استعادة التاريخ وفتح أبواب المستقبل، فاللغة ليست مجرد أداة تواصل فحسب، بل ذاكرة الأمة وجوهر وجودها.