د. خالد جبر -باحث في القانون الدولي
تُعد جريمة الاضطهاد من أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي طوّرها القانون الدولي في القرن العشرين، نظراً لطبيعتها التمييزية الجماعية وآثارها الكارثية على كيان وهوية جماعات بشرية بأكملها، فالاضطهاد لا يُرتكب في لحظة معزولة، بل يتم ضمن سياسات ممنهجة ومنظمة تهدف إلى نفي فئة معينة من حقوقها الأساسية بسبب انتمائها العرقي أو الديني أو السياسي، وقد عانت شعوب كثيرة من هذه الجريمة، إلا أن الكرد في سوريا، خصوصاً في ظل النظام البعثي، يُمثلون حالة نموذجية ومعقدة للاضطهاد القومي المستمر، هذا المقال يُحلل جريمة الاضطهاد في القانون الدولي من الناحية النظرية، ويطبقها على النموذج الكردي في سوريا.
أولًا: جريمة الاضطهاد – المفهوم والتطور القانوني:
- 1. تعريف الاضطهاد في القانون الدولي: عرّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) جريمة الاضطهاد في المادة 7(2) (هـ) على أنها: “الحرمان المتعمد والشديد من الحقوق الأساسية، بما يخالف القانون الدولي، بسبب انتماء جماعة أو فئة معينة لسبب سياسي، عرقي، قومي، ثقافي، ديني أو نوعي أو على أساس الجنس”.
هذا التعريف يُشير بوضوح إلى الطبيعة الجماعية للجريمة، ويضعها ضمن الجرائم ضد الإنسانية إذا ما ارتكبت “في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين”.
- 2. التطور التاريخي لمفهوم الاضطهاد في محاكم نورمبرغ (1945):
ـ ظهرت جريمة الاضطهاد لأول مرة كجزء من الجرائم ضد الإنسانية، خاصة ما ارتكبه النازيون ضد اليهود والغجر والمعارضين السياسيين.
ـ في المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (ICTY): رُسّخ المفهوم من خلال قضايا مثل قضية “كوفاشيفيتش” التي اعتبرت الاضطهاد يشمل الطرد القسري والتمييز الديني.
ـ في المحكمة الجنائية لرواندا (ICTR): جُرّمت أفعال اضطهاد بناءً على الانتماء العرقي في سياق الإبادة الجماعية ضد التوتسي.
- 3. تميّز جريمة الاضطهاد عن غيرها ما يجعل جريمة الاضطهاد مميزة هو:
ـ الدافع التمييزي: الدافع القائم على الهوية.
ـ الطابع المؤسسي: غالبًا ما تُرتكب من قبل أجهزة الدولة.
ـ شمولية الضحايا: لا تستهدف أفرادًا محددين بل جماعات بأكملها.
ثانيًا: الأركان القانونية لجريمة الاضطهاد:
- 1. الركن المادي ويشمل:
ـ الأفعال التمييزية (الحرمان من التعليم، العمل، التملك، الجنسية…).
ـ الأفعال العنيفة أو غير العنيفة التي تنتهك الحقوق الأساسية.
ـ التنظيم القانوني أو السياسي لهذه الأفعال (تشريعات، قرارات، ممارسات إدارية).
- 2. الركن المعنوي:
يتطلب إثبات نية اضطهادية، أي أن الجاني كان يعلم أن أفعاله تُنفذ بهدف التمييز، وليس فقط لأسباب أمنية أو سياسية عامة.
- 3. الركن السياقي:
يشترط أن تقع الجريمة ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد السكان المدنيين، لا أن تكون فعلًا فرديًا أو معزولًا.
ثالثًا: مظاهر جريمة الاضطهاد في السياسات القومية: الحالة الكردية في سوريا
- 1. الخلفية:
الكرد هم ثاني أكبر مجموعة قومية في سوريا بعد العرب، ومع ذلك لم يُعترف بهم كشعب وطني. منذ وصول حزب البعث إلى الحكم عام 1963، اتبعت الدولة سياسة تعريب وقمع للهويات غير العربية، تمثلت في جملة من السياسات القمعية تجاه الكرد، وهي ليست فقط تمييزية، بل تُشكّل نمطًا من الاضطهاد الممنهج.
- 2. السياسات البعثية المضطهدة:
أ) الإحصاء الاستثنائي لعام 1962:
ـ جُرّد حوالي 300 ألف كردي من جنسيتهم، وصُنفوا كـ “أجانب”.
ـ حُرم هؤلاء من أبسط الحقوق مثل التملك، التعليم، الصحة، العمل الرسمي.
ـ استُخدم هذا الإجراء كأساس قانوني لحرمان الكرد من حق المواطنة.
ب) مشروع الحزام العربي (1965– 1976):
ـ تهجير قسري من مناطق الكرد الحدودية (40 كم).
ـ إسكان عشائر عربية مكانهم، وتوطينهم قسريًا.
ـ تغيير الطابع الديمغرافي لمناطق مثل جل آغا، قامشلو، وسري كانيه.
ج) منع اللغة والثقافة الكردية:
ـ حظر استخدام اللغة الكردية في المدارس والإدارات.
ـ منع الأسماء الكردية في سجلات الأحوال المدنية.
ـ مصادرة الكتب والمؤلفات الكردية، وملاحقة الناشطين الثقافيين.
د) التمييز في الوظائف والتعليم:
ـ استبعاد الأكراد، خصوصًا “المكتومين” و “الأجانب”، من التوظيف في القطاع الحكومي.
ـ منع تسجيل الطلاب الكرد في الجامعات أو بعثات التعليم الخارجي.
ـ تقييد الحركة والسفر حتى داخل البلاد.
رابعًا: التقييم القانوني للانتهاكات ضد الكرد
انطلاقًا من المعايير الدولية، يمكن توصيف السياسات السورية تجاه الكرد كـ:
- 1. جريمة اضطهاد ممنهج:
ـ الركن المادي: تمثل في نزع الجنسية، التهجير القسري، قمع اللغة، التمييز.
ـ الركن المعنوي: توفر نية تمييزية قائمة على الانتماء القومي.
ـ الركن السياقي: وقعت الأفعال ضمن حملة منظمة دامت لعقود.
- 2. جريمة تهجير قسري:
ـ ينطبق عليها وصف الجريمة ضد الإنسانية بموجب المادة 7 (ا) (د) من نظام روما.
- 3. الإبادة الثقافية:
رغم أن “الإبادة الثقافية” ليست معترف بها كجريمةٍ منفصلة في القانون الدولي، فإن ممارسات النظام تدخل ضمن هذا المفهوم.
خامسًا: مسؤولية الدولة السوريّة والمساءلة الدوليّة:
- 1. غياب المحاسبة الوطنية سابقاً وحالياً
السلطة القضائية السورية غير مستقلة ولا تملك القدرة على محاسبة النظام.
الهيئة المفوضة للعدالة الانتقالية معنية تماماً بما تعرّض له الكرد خلال الحقبة السابقة
قوانين الطوارئ والمراسيم الجمهورية تمنح الحصانة لمرتكبي الانتهاكات.
- 2. العقبات التي كانت أمام العدالة الدولية إبّان النظام البعثي السابق:
ـ سوريا لم توقّع على نظام روما.
ـ الفيتو الروسي والصيني أعاق مرارًا إحالة الوضع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ـ غياب إرادة دولية صلبة لمحاسبة الجناة.
- 3. الأمل في العدالة الدولية:
ـ المحاكم الوطنية الأوروبية بدأت بمحاكمة ضباط سوريين بموجب “الولاية القضائية العالمية”.
ـ جمع الأدلة عبر منظمات مثل “أرشيف العدالة السورية” و”مركز توثيق الانتهاكات”.
جريمة الاضطهاد ليست فقط انتهاكًا قانونيًا، بل هي اعتداء على إنسانية الإنسان وهويته ووجوده. وفي الحالة السورية، يمثل ما تعرض له الكرد في ظل حكم حزب البعث نموذجًا واضحًا لجريمة اضطهاد ممنهج على أساس قومي. وإذا كان القانون الدولي قد تطور كثيرًا في تعريف وتوصيف هذه الجريمة، فإن التحدي الأكبر لا يزال يكمن في تنفيذ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتوفير آليات دولية فعّالة للمحاسبة. إن نضال الشعوب لا يُختزل في المطالبة بحقوقها، بل في مقاومة محوها من الوجود الثقافي والاجتماعي والسياسي.
المراجع
ــ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، 1998.
ـ اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، 1948.
ـ تقارير اللجنة الدولية للتحقيق في سوريا، مجلس حقوق الإنسان، 2011–2022.
ـ مركز توثيق الانتهاكات في شمال شرق سوريا – تقارير سنوية.
ـ Human Rights Watch – Reports on Syria and the Kurds.
ـ كتاب: د. حسن كوهين، “حقوق الإنسان في الوطن العربي: دراسة مقارنة.