أكرم بركات (صحفي)
على وقع التطورات المتسارعة في المنطقة، بدأنا نلحظ تحولاً تدريجياً في المقاربة الدولية تجاه الملف السوري، لا سيما فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على دمشق. فهل يشكل تعليق أو تخفيف بعض هذه العقوبات بداية لتحول استراتيجي في الموقف الغربي، أم أنه مجرد إجراء تكتيكي مرتبط بظروف مرحلية؟
العقوبات.. تكتيك دولي أم مدخل لتغيير سياسي؟
تاريخياً، فُرضت العقوبات الغربية على النظام السوري كوسيلة للضغط السياسي بعد اندلاع النزاع عام 2011. إلا أن المستجدات الأخيرة، ومنها تعليق بعض العقوبات لأسباب “إنسانية” أو “سياسية”، تطرح تساؤلات حول حقيقة هذا التغيير: هل هو تمهيد لانفتاح دولي أوسع، أم أنه مجرد خطوة للتهدئة المرحلية دون مسار سياسي واضح المعالم؟
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال أن تخفيف العقوبات وحده لا يشكل بالضرورة مدخلاً فعلياً نحو تسوية شاملة، ما لم يرتبط بمسار سياسي حقيقي وشروط واضحة تضمن الانتقال نحو حل دائم. إلا أن البعض يعدّها مجرد محاولة للحد من تداعيات الأزمة، لا سيما في ظل تفاقم الوضع الإنساني، دون أي نية جادة لتغيير بنية السلطة. من الواضح أن الدول الغربية والعربية، في مقابل أي تخفيف للعقوبات أو تطبيع محدود، وضعت شروطاً تتعلق بخطوات سياسية تخدم مصالحهم في الدرجة الأولى، ومن ثم أخرى تتعلق بالوضع الدخل مثل تهيئة بيئة آمنة للعودة، والمشاركة في عملية سياسية ذات مصداقية. إلا أن دمشق، وفق مراقبين، لم تُبدِ التزاماً حقيقياً بهذه الشروط من الناحية الداخلية، بل اكتفت بخطاب سياسي يكرّس “الانتصار” ويعزّز القبضة الأمنية.
في الداخل، لا تتردد السلطة في تحميل العقوبات كامل المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. إلا أن ثمة تساؤلات مشروعة حول مدى واقعية هذا الطرح، خاصة في ظل الفساد المستشري، وسوء الإدارة، والتضييق على المبادرات المحلية. وهنا، يبدو أن العقوبات تحوّلت إلى أداة تبريرية جاهزة في خطاب السلطة، أكثر من كونها السبب الجوهري للأزمات البنيوية.
المتابع للتقارب العربي الأخير مع دمشق؛ يلحظ بوادر تفكيك تدريجي لعزلة النظام. لكن؛ هذا الانفتاح لا يبدو نابعاً من اقتناع بشرعية السلطة القائمة، بقدر ما يعكس تبدل أولويات الدول الفاعلة، لا سيما في ظل الانشغال الدولي بأزمات كبرى كالحرب في أوكرانيا، وتنامي نفوذ إيران في الساحة السورية. من هنا، قد يكون هذا “الاحتواء” جزءاً من إعادة التموضع الإقليمي لا أكثر.
تركيا
أما تركيا، فلا تزال تحتفظ بدور محوري في الشمال السوري، عبر وجود عسكري مباشر وتحالفات مع مجموعات مرتزقة من إنتاجها. لكنها؛ في الوقت نفسه، باتت منخرطة في تفاهمات مع موسكو وطهران، تهدف لضبط توازنات ميدانية أكثر من سعيها لحسم سياسي. ومع تعقّد المشهد، يبدو أن أنقرة تراهن على إدارة الملف، لا حله.
روسيا
مع انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا، تراجعت قدرتها على التأثير الحاسم في الملف السوري. وباتت تُمارس دوراً أقرب إلى “الضامن” لتوازن المصالح بين القوى الإقليمية (تركيا، إيران، إسرائيل)، من كونها الطرف المقرر في مخرجات النزاع. وهذا التحول ينعكس على تموضعها العسكري، وتراجع الدعم الاقتصادي للنظام.
إسرائيل
برزت إسرائيل كطرف فاعل في المعادلة السورية، من خلال ضربات جوية متكررة تستهدف مواقع إيرانية. وتُشير تقارير إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين تل أبيب وموسكو، وربما مع دمشق ذاتها، ما يعيد صياغة خريطة النفوذ بطريقة تكرّس واقعاً جديداً تتحاشى فيه جميع الأطراف الاصطدام المباشر.
تطرح التطورات الحالية تساؤلاً جوهرياً: هل تتجه سوريا نحو نموذج “اللامركزية الواقعية”، تُقسَّم فيها البلاد بحكم الأمر الواقع بين مناطق نفوذ، أم أننا أمام مسار تفكك بطيء قد يُكرَّس لسنوات قادمة؟ هذا ما ستجيب عنه ديناميات السيطرة العسكرية، وشكل التسويات المفروضة دولياً.
مشروع وطني معلق؟
في هذا المشهد المعقّد، تبرز الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بوصفها الكيان الوحيد الذي يطرح مشروعاً وطنياً بديلاً، حيث يحتض ضمنه الشعوب السورية كافة، ولديها عقد اجتماعي ديمقراطي متكامل، إلا أن فرصها في فرض هذا المشروع على مستوى سوريا ككل، لا تزال مرهونة بتغيرات دولية كبرى، وبتفاهمات محتملة مع دمشق أو حتى تركيا.
وسط كل هذا التعقيد؛ تدور أحاديث عن إعداد دستور سوري جديد، لكن المسار الدستوري لا يزال مجمداً فعلياً، في ظل غياب الإرادة السياسية من مختلف الأطراف. وإذا لم يستند أي دستور قادم إلى توافقات شاملة، وضمانات حقيقية لحقوق جميع السوريين، فإنه سيكون مجرّد ورقة سياسية بلا فعالية.
أمام كل ما سبق، يبقى السؤال الأهم: ما السيناريو الأقرب لسوريا في السنوات المقبلة؟ هل نشهد عودة تدريجية لمركزية الدولة؟ أم يستمر الجمود السياسي والعسكري؟ أم أننا مقبلون على موجة جديدة من الصراع في ظل التناقضات الداخلية والتجاذبات الإقليمية والدولية؟
ختاماً، تبدو سوريا اليوم محكومة بتوازنات معقدة وهشة، تمنع الحرب الشاملة لكنها لا تتيح السلام الفعلي.