قامشلو/ سلافا عثمان ـ في مدينة قامشلو، حيث تختلط رائحة التراب بعرق الفلاحين، تروى حكاية رجل تجاوز الستين من عمره، اتخذ سيارة بسيطة متجراً متنقلاً، ومن شتلةً صغيرة باباً مفتوحاً للكرامة والعمل الدؤوب رغم الظروف الصعبة.
“حسين عبد الله” من حلب يقيم في مدينة قامشلو منذ سبعة عشر عاماً، لم يركن إلى البطالة ولا إلى المساعدة، بل حمل فأسه، وزرع الأرض، ثم حول سيارته إلى مصدر رزق متنقل، بين الدرباسية وقامشلو، تمتد رحلته اليومية المليئة بالصبر والأمل.
حكاية صبر ولقمة عيش
في أحد أزقة مدينة قامشلو، حيث تعبر عربات الخضار وتتعالى أصوات الباعة، يقف رجل ستيني إلى جانب سيارته، لا لبيع قطع الغيار أو مأكولات سريعة، بل ليعرض شتولاً خضراء، غرسها بيديه في مشتل يملكه في الدرباسية، إنها ليست مجرد شتلات، بل حكاية عمر وصبر ولقمة العيش.
“حسين عبد الله” ابن مدينة حلب، استقر في مدينة قامشلو، بعدما دفعته الظروف إلى ترك مسقط رأسه، لم يكن انتقاله مجرد تغيير مكان، بل بداية جديدة لرجل كان عليه أن يعيد ترتيب حياته من الصفر، في مدينة جديدة، ولغة جديدة، وسوق جديد.
وفي حديث مع صحيفتنا “روناهي”: “أنا ابن الأرض، نشأت على الزراعة منذ شبابي، وعندما انتقلت إلى مدينة قامشلو، لم أبحث عن وظيفة مكتبية، بل عدت إلى الزراعة”.
وبدأ عبد الله مسيرته الزراعية من مشتل صغير في مدينة الدرباسية، حيث انكبّ على زراعة شتول متنوعة مثل الفليفلة، والبندورة، والباذنجان، والخيار، والكوسا، والورود وغيرها، لم يكن المشتل مجرد حقلٍ للزراعة، بل مشروع حالم يبنيه خطوة بخطوة.
ومع مرور الوقت، توسع المشروع ليشمل مشتلاً آخر في قرية دبانة بمدينة قامشلو، ما زاد حجم الإنتاج، لكن وتيرة المبيعات لم تكن بمستوى التوسع ذاته. ويربت عبد الله على غطاء سيارته: “هذه لم تعد مجرد سيارة، بل تحولت إلى متجر ومخزن وسوق متنقل”.
فمنذ سنوات، قرر عبد الله أن يحمل شتوله الزراعية صباح كل يوم، ويجوب بها أسواق قامشلو والدرباسية بحثاً عن مصدر رزقه.
كلما نمت شتلة ينمو أمل
ويبدأ موسم البيع في الخامس عشر من نيسان، ويستمر حتى الأول من حزيران، وهي الفترة التي يشتد فيها الطلب على الشتول الزراعية مع استعداد المزارعين لتجهيز أراضيهم، وتتراوح أسعار الشتول بين 1500 ليرة سورية، و125 ألف ليرة، لنوعها وكميتها.
وأشار عبد الله، إلى أن بيع الشتول مباشرة من السيارة لم يعد خياراً ترفيهياً، بل ضرورة فرضتها طبيعة العمل: “البيع المباشر من السيارة أتاح للناس رؤية الشتول عن قرب، ما ساعدنا على بناء ثقة متينة مع الزبائن، اليوم أصبح لنا زبائن ينتظروننا في كل موسم”.
ورغم الجهد الكبير الذي يبذله، أوضح عبد الله، أن هامش الربح لا يتجاوز عشرة بالمائة: “ما نكسبه ليس كثيراً، لكنه يكفينا، نحن اعتدنا أن نعيش من جهدنا، لا من عطايا الآخرين”.
ولكن الطريق لم يكن سهلاً، إذ يواجه عبد الله تحديات عديدة، من تقلب الأسعار وارتفاع تكاليف الأسمدة، إلى صعوبة نقل الشتول دون تعرضها للتلف، والعمل الطويل تحت الشمس، ومع ذلك لم يفكر بالتراجع. حيث قال بابتسامة ممزوجة بالتعب والرضا: “الزراعة تُعلّم الصبر، تماماً مثل الشتلة، كل شيء يحتاج إلى وقت”. ويشير إلى أن المنافسة تمثل تحدياً آخر، لكنه يؤمن أن جودة المنتج والعلاقات التي يبنيها مع الزبائن كانت مفتاح استمراره. واختتم “حسين عبد الله” حديثه، بكلمات مؤثرة تحمل في طياتها الإصرار والأمل: “كانت هذه السيارة وسيلة للنقل، لكنها اليوم أصبحت مصدر رزقنا، إن استمرت في السير، نستمر نحن، وإن تعطلت، توقف رزقنا، لكن ما دام هناك شتلة تخرج من الأرض، فهناك رزق، وهناك كرامة، وهناك أمل”.