عبدالرحمن ربوع
حتى بعد ستة أشهر من سقوط نظام الأسد وصعود نظام جديد إلى سدة الحكم في دمشق لا تزال البلد طاردة للسكان بدلًا من جذب اللاجئين والنازحين. ومازالت قوارب الموت تقل عشرات السوريين كل يوم باتجاه لبنان وقبرص واليونان بحثًا عن فرص العيش الآمن الكريم.
كيف يمكن لسوريا أن تنهض متعافية من تحت الركام، وتنقل شعبها إلى البيوت من الخيام فيما لا تزال الأوضاع الأمنية تنتقل من سيء إلى أسوأ. وفيما تتراجع كل المؤشرات على كافة الصعد ولا شيء ينبئ بتحسن الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى بعد كل هذه المدة التي تحمّلها السوريون على مضض على أمل أن تنجح الحكومة الانتقالية بتلبية الحد الأدنى من مطالبهم بعيشٍ آمن وكريم.
فالأمن لازال مفقوداً ومفتقداً في معظم التراب السوري. ومازال الناس يخشون الخروج وعدم العودة، ولازالت الأمهات والزوجات يودعن أبناءهن وأزواجهن الوداع الأخير في كل مرة يخرجون فيها من بيوتهم. ولازالت البنات والشابات بحاجة لمن يوصلهن إلى مدارسهن وجامعاتهن في الصباح، ثم يوصلهن إلى منازلهن في المساء، وهناك المئات من الطلاب والطالبات اضطروا لمغادرة جامعاتهم في حلب وحمص ودمشق والعودة إلى السويداء لافتقادهم للأمن، وخشية وقوع التهديدات التي يسمعونها كل يوم من زملائهم على مرأى ومسمع من إدارات الجامعات ومن عناصر الأمن دون أن يحركوا ساكناً؛ بل لربما اشتركوا وشاركوا في التهديد أيضًا.
كل هذا فيما موضوع العدالة الانتقالية مؤجل بتشكيل الهيئة الخاصة بها، والذي طال انتظاره ولا أحد يدري هل ستنجح هيئة العدالة الانتقالية في تحقيق مهمتها في ظل هذه الأجواء المعطلة لأي عمل إيجابي. وهل سيكون أفراد أو أعضاء هذه الهيئة آمنين ليتمكنوا من تنفيذ المهمة المنوطة لهم، وهل سيكونون على قدر الكفاية المناسبة لأداء المطلوب منهم؟ كلها أسئلة حائرة لا إجابات حاسمة عليها لأن كل ما تم في السابق من إجراءات على صعيد السياسة والاقتصاد والأمن لا يشي بنجاح موضوع العدالة الانتقالية الذي هو مطلب أساسي لتحقيق الاستقرار في سوريا وبدء مرحلة جديدة تقطع مع الماضي المظلم الذي عاشه وعاناه السوريون في الحقبة السابقة على النظام الحالي.
أيضًا البنية التحتية والخدمات الأساسية مازالت أقل من أن تكون مناسبة للمواطنين الموجودين حالياً في مناطقهم، فضلاً عن المواطنين اللاجئين والنازحين المطلوب عودتهم، وبدون تحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية لا يمكن للنازحين أو اللاجئين أو المهاجرين أن يعودوا ليقوم الجميع بدوره في إعادة إعمار البلد.
قضية أخرى على قدر كبير من الخطورة والأهمية هي الفوضى الإعلامية وحرب الإشاعات التي تعصف بالمجتمع بسبب قلة وضعف وسائل الإعلام المحلية والرسمية، واعتماد السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات العربية والأجنبية لمعرفة الأخبار ومتابعة الأحداث والوقوف على التحليلات والمآلات. وهناك كم غزير من السموم التي يتم دسها في وعي الشارع السوري فضلاً عن الإشاعات والأخبار المضللة التي تثير الاضطرابات، وتعبئ قطاعات محددة من الشارع السوري ضد قطاعات أخرى، وتنشر الكراهية وتثير البلبلة وتحرض على الفتن الطائفية والعرقية لصالح تأزيم الأمور وتعطيل المُضي قدمًا على طريق الاستقرار.
وفوق كل هذا ابتلي الشارع السوري بجيش إلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلفهم مؤيدين ومتابعين لهم يبررون كل خطيئة وجريمة ترتكبها الحكومة الانتقالية والفصائل والأشخاص التابعين لها. وهؤلاء لا يختلفون أبدًا عن مؤيدي النظام الساقط الذين كانوا يسوّغون لحكومة الأسد الفشل والأخطاء والجرائم ويدافعون عنها.
وبغض النظر عما “يُطبخ” لسوريا دوليًا وإقليميًا، وسط مساعي دبلوماسية لضمها لحلف الاعتدال العربي، وتسوية الصراع السوري الإسرائيلي، وإدخال دمشق في نسق الاتفاقات الإبراهيمية ومنظومة السلام الشرق أوسطية، وضمن اتفاقية “الكويز” الاقتصادية لاحقًا.. فالمراد هو تسكين الأوضاع في سوريا تمامًا، وهي فرصة تاريخية على كل السوريين اغتنامها لإعادة إعمار هذه البلد، وإعادة شعبها المهجر واللاجئ والنازح. وفوق وقبل كل هذا وذاك بناء نظام سياسي تشاركي يشمل جميع السوريين بكل تنوعاتهم واختلافاتهم وخلافاتهم. وذلك عبر إعلان دستوري جديد وحكومة انتقالية جديدة، فهذا وحده الضمانة لطمأنة السوريين في الداخل والخارج أن البلد تسير بالاتجاه الصحيح نحو تأسيس جمهورية جديدة تقطع تمامًا مع الاستبداد والفساد، وتُرسي أسس نظام سياسي رشيد نزيه يليق بحاضر ومستقبل سوريا والسوريين.