الشدادي/ حسام الدخيل – كان “سباهي الحمد” يقف عند أطراف حقله في ريف مدينة الشدادي الشمالي، يحدّق في سنابل الشعير اليابسة التي انحنت قبل أوانها، كما لو أنها أدركت مبكراً أن لا حصاد هذا العام. بصوت خافت ممزوج بالمرارة قال: “اشتغلت كل الموسم على أمل أن الله يكرمنا، بس السماء خذلتنا… ولا نقطة مطر تُشفي الأرض”.
هكذا بدأ موسم الحصاد في الشدادي، ليس بأهازيج الفرح التي اعتادها المزارعون، بل بصمت الحقول التي لم تُثمر، وبحسرة تعب شهور ذهب سُدىً.
أراضٍ زُرِعت بالأمل… وجُنيت بالخسارة
“سباهي الحمد“، الذي زرع نحو 40 دونماً من القمح والكمون، واليانسون، يقول إن الإنتاج هذا العام لا يكاد يملأ نصف شاحنة. “يعني إذا حصّدت، بخسر كمان، بس شو بدي أعمل؟ ما بقدر أتركه بالأرض”.
ويضيف: “كان الإنتاج في السابق يُقدر بمعدل نصف طن للدونم الواحد، لكن اليوم الأمر مختلف تماماً حتى 100 كيلو لا يمكن أن ينتج الدونم”.
وتراجعت المساحات المزروعة خلال الموسم الحالي إلى نسبة عالية جداً، بالمقارنة مع المواسم السابقة، وتشير تقديرات محلية إلى أن إجمالي المساحات المزروعة في منطقة الشدادي خلال الموسم الحالي لا تساوي ربع المساحة التي كانت مزروعة في المواسم السابقة، وتعتبر محاصيل القمح والشعير والكمون مؤخراً محاصيل رئيسية يعتمد عليها السكان كمصدرِ دخل سنوي. لكن؛ الجفاف الذي ضرب المنطقة – بانخفاض معدل الهطولات لأقل من 40% من المعدلات الطبيعية – أدى إلى تدني نسبة الإنتاج بما يقارب 70% مقارنةً بالعام الماضي، بحسب ما أفاد به مزارعون محليون.
الكمون واليانسون… خسائر أكثر تكلفة
في منطقة تعتمد الزراعة البعلية (المعتمدة على الأمطار)، كان الموسم قاسياً. يوضح المزارع أمين الإبراهيم: “الكمون تحديداً كارثة هالسنة. تكلفة الهكتار الواحد توصل لـ300 دولار أمريكي، لكن المحصول أقل من المتوقع بكثير، ولا يسد حجم التكلفة والعناء الذي قدمته له”.
ويضيف: “الكمون واليانسون بدهم مطر بوقت محدد، وإذا فات هالوقت، ما عاد ينفع شي”.
وتصنف تكلفة زراعة النباتات العطرية، من الزراعات المكلفة، حيث يحتاج الأمر إلى بذار بالإضافة إلى حراثة الأرض، وزراعة البذار، ومكافحة الأعشاب الضارة، مرتين على الأقل خلال الموسم، فضلاً عن الحصاد، وجميع هذه الأمور تحتاج إلى يد عاملة.
ويؤكد الإبراهيم: “إن ساعة العاملة الواحدة التي تعمل في الحصاد أو خلال فترة التعشيب تبلغ خمسة آلاف ليرة سوريّة، ويعملن بشكلٍ وسطي سبع ساعات يومياً، أي كل عاملة تبلغ يوميتها قرابة الـ 35000 ليرة سوريّة، والأرض تحتاج إلى 20عاملة على الأقل، أي إن مصاريف العمال تصل إلى حدود الـ 700 ألف ليرة سوريّة يومياً، وكل هذا يضاف على كاهل المزارع”.
تجاهل رسمي وشح في الدعم
رغم الظروف الصعبة، لم يتلقَّ المزارعون أي دعم يخفف عنهم الخسائر. ينوه “سامي الخلف”، مزارع خمسيني: “لا دعم من الإدارة ولا من أي منظمة. لا سماد، لا محروقات، لا بذار، كأنو نحنا من خارج الخريطة”.
ويتابع: “السنين عم تتكرر، وكل مرة منقول السنة الجاية، بس إذا ما في تغيير حقيقي، ما عاد حدا يزرع”.
ويُذكر أن معظم المزارعين اضطروا إلى شراء البذار بأسعار السوق السوداء، حيث وصل سعر كيلو الكمون إلى أكثر من 40 ألف ليرة سوريّة، في حين لا يزيد سعر البيع حالياً عن 25 ألف ليرة للكيلو.
السماء وحدها لا تكفي… نداءات للمنظمات والداعمين
في ظل غياب خطة ري فعالة، وارتفاع أسعار المحروقات التي تصل أحياناً إلى سبعة آلاف ليرة لليتر الواحد من المازوت، أصبحت الزراعة في الشدادي معركة يومية ضد العجز.
يطالب المزارعون المنظمات الدولية العاملة في إقليم شمال وشرق سوريا بتوفير الدعم الطارئ من خلال تقديم مساعدات زراعية أو تعويضات جزئية عن الخسائر، إضافةً إلى مساعدة المزارعين في إنشاء شبكات ري حديثة تعتمد على الري بالتنقيط والطاقة البديلة.
ما إلنا غير الأمل… رغم كل شيء
رغم المرارة، لم يتوقف “محمد العلي” عن جني محصول الكمون خاصته، وإن كان يعرف مسبقاً أن المحصول لا يستحق العناء. “الزراعة مو بس شغل، هي حياة. إذا تركناها، منعيش غُرباء بأرضنا”، يقول وهو يحمل سنابل من القمح بين يديه.
الحصاد بدأ تقريباً في المنطقة، عاملات الحصاد يثرن الغبار أكثر مما يجمعنَّ سنابل. صمت المزارعين أمام هذه الأيادي يعكس شعوراً مشتركاً بالعجز.
موسم من الرماد… وبصيص رجاء
موسم الحصاد في الشدادي هذا العام ليس سوى مرآة لأزمة متراكمة. أرضٌ تتعب، وسماءٌ شحيحة، ومزارعٌ مكافح لا يملك من أدوات الصمود سوى إيمانه بأرضه. “يمكن السنة الجاية تكون أرحم… ما إلنا غير الأمل”، يختم “محمد العلي“، بينما يحدق في أفق لا غيم فيه.