حمزة حرب
الحديثُ عن شرق أوسط جديد وخرائط جديدة يتصاعد في الآونة الأخيرة وهنا لا بد من استذكار أبشع أنواع الاتفاقيات التي غيّرت معالم ووجه المنطقة ورسمت خرائط الدم على الأرض وهي اتفاقية سايكس ـ بيكو التي بدأ التفاهم حولها في تشرين الثاني 1915 وانتهى في 16 أيار 1916، وصنفت على أنّها الاتفاقية الأكثر ألماً لشعوب المنطقة وبددت آمالهم في العيش بكرامة وبأمان.
الصراعات الدوليّة في المنطقة ستستمر، وستُرسم خرائط جديدة بناءً على مصالح القوى الكبرى ولا أي اعتبار لما تأمل به الشعوب من عيشٍ مشترك ينعم بالأمن والأمان فمن طبق سايكس ـ بيكو لن يتوانى في تطبيق غيرها وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ لأنّ التحرك الدوليّ سيُبنى على أساسِ مصالح الدول الكبرى، ولا نهاية لهذه المصالح ما يعني استمرار الهيمنة وإعادة رسم الحدود.
تفاصيل رسم خطوط التقسيم
الاتفاقيةُ المشؤومة “سايكس ـ بيكو” أخذت اسمها من الفرنسيّ فرانسوا جورج بيكو والبريطانيّ مارك سايكس، اللذين قادا الاتفاقية في جوٍ من السريّة والتكتم الشديد، حيث تم تبادلُ وثائق التفاهم بين وزارات خارجيّة فرنسا وبريطانيا وكانت ثالثهم روسيا القيصريّة ولم يُكشف عن الاتفاقية إلا بعد الثورة البلشفيّة ووصول الشيوعيين إلى الحكم في روسيا عام 1917 فانسحبت روسيا من الاتفاقية وفضحتها للعالم. لكن؛ مع ذلك تمّ تعيين جورج بيكو، القنصل العام السابق لفرنسا في بيروت، كمندوبٍ سامٍ لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، ومفاوضة الحكومة البريطانيّة لتحديد مستقبل البلدان العربيّة والتقى في القاهرة مندوب بريطانيا لشؤون الشرق الأدنى، مارك سايكس، بإشراف مندوب روسيا.
اقترح سايكس رسم خط أُطلق عليه “خط الرمال” يمتد من عكا في فلسطين إلى كركوك في العراق، وتعود تسمية خط الرمال إلى كتاب “خط في الرمال” للكاتب البريطانيّ جيمس بار وهذا الخط الأسود يقسم الشرق الأوسط في منتصفه، وكان أساس تقسيم المنطقة والنسيج القبليّ والعشائريّ والانتماءات الدينيّة والطائفيّة والقوميّة ونتج عن هذه المفاوضات والمراسلات اتفاقية سريّة تعرف باسم “اتفاقية القاهرة”، ثم انتقل المجتمعون إلى بطرسبورغ الروسيّة حيث تم التوصل إلى اتفاقية ثلاثية تُعرف بـ”اتفاقية سايكس بيكو”، واتفقوا فيها على مناطق النفوذ لكلّ دولةٍ.
حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من بلاد الشام، وجزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق، بينما امتدت مناطق سيطرة بريطانيا من جنوب بلاد الشام شرقاً لتشمل بغداد والبصرة وجميع المناطق بين الخليج العربيّ والمنطقة الفرنسيّة.
تم تحديد المنطقة التي اقتطعت لاحقاً من جنوب سوريا “فلسطين”، لتكون تحت إدارة دوليّة يتم الاتفاق عليها بين بريطانيا وفرنسا لتمنح لاحقاً وبموجب وعد بلفور للحركة الصهيونيّة العالميّة الاتفاق شمل أيضاً منح حيفا وعكا لبريطانيا، مع حريةِ استخدامِ ميناء حيفا لفرنسا، بينما منحت فرنسا لبريطانيا حقَّ استخدام ميناء إسكندرون، الذي كان تحت سيطرتها.
بعد الحربِ العالميّة الأولى، لم يتبقَّ من اتفاقية “سايكس بيكو” سوى الترسيم الأوليّ لحدود لبنان والعراق والأردن وفلسطين، وقد استمرّ الاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، حيث واصلا السيطرة على بلدان المنطقة بسلطة الانتداب، باستثناء اليمن والسعودية والأردن.
في عام 1922، بعد قمعِ الثوراتِ في فلسطين وسوريا والعراق، أقرّت جامعة الأمم وضع هذه المناطق تحت نظام الانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ في هذا السياق، بدأت الحركة الصهيونيّة نشاطها لتنفيذ وعد بلفور وإقامة دولة إسرائيل.
خروج الانتداب وتركة حدود الدم
خرجت دول الانتداب تباعاً من منطقة الشرق الأوسط لكن خلفت وراءها أنظمة تتصارع على الحدود التي رسمها سايكس وبيكو لتكون هذه الحدود غارقة بالدم، بسبب الحروب عليها والصراع لترسيخها وتثبيتها علماً أنّها رسمت بقطعة خشب على حفنة من رمل لكن الصراع عليها بات بالحديد والنار.
أحد المفاصل التاريخيّة في العالم العربيّ المعاصر، كان فيما أفرزته الوقائع السياسيّة والتاريخية حول اتفاقية سايكس ـ بيكو على بنيةِ المجتمع العربيّ خلال الحقبة الزمانيّة الماضية، وذلك من خلال إحداث شروخ عميقة بين في المنطقة كمقدمةٍ لتطبيقِ اتفاقية سايكس – بيكو، لاسيما بعد أن فُرض الانتدابُ الفرنسيّ على بعضِ المناطق، وبدأ التقسيم فيما فُرض الانتداب البريطانيّ على مناطق أخرى وتم رسم حدود قائمة على مناطق نفوذ.
كان كل ذلك أيضاً تمهيداً أوليّاً قاد إلى الإقرار بوعد بلفور في 2/11/1917، والذي يقضي بإنشاء وطنٍ قوميّ لليهود في فلسطين، بعدما أرسلت بريطانيا هربرت صموئيل اليهوديّ الصهيونيّ مندوباً سامياً إلى فلسطين ليحوّلها إلى “إسرائيل”، ومع إعلان الانسحاب البريطانيّ أعلنت إسرائيل قيام دولتها في 15/5/1948، فيما تلاحقت الأحداث وصولاً إلى النكسة والحرب في 5/6/1967، بهدف بسط اليهود أيديهم على الأراضي الفلسطينيّة وجوارها.
كان الواقع السياسيّ العربيّ حينها يرتبط بالقوى الاستعماريّة، وبدأت دول أوروبا بالسيطرة العسكريّة على مساحات كبيرة، وكانت البدايات من دخول فرنسا إلى الجزائر عام 1830، ومن ثم تونس والمغرب واقتسامها مع إسبانيا، بالإضافة لدخول إيطاليا إلى ليبيا، وبريطانيا إلى عدن وعمان ومصر والسودان والكويت، إلى أن نشبت الحرب العالميّة الأولى والتي كان من أسبابها الرئيسيّة، تنازع الدول الغربيّة على اقتسام تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة الهرمة.
واستمراراً لهذا الواقع تم إقرار اتفاقيات تنظم المكاسب التي يمكن أن تحصل عليها الدول العظمى المنتصرة بعيداً عن تطلعات شعوب المنطقة، وعلى رأسها اتفاقيات سايكس – بيكو، وسان ريمو 26/4/1920، واتفاقيات باريس، والتي تمّ بموجبها تقسيم بلدان المنطقة إلى مناطق نفوذ واستعمار بين الدول الأوروبيّة فأدّى ذلك التقسيم لقيام هذه الكيانات والدول المتعددة، ولاسيما أنّ الدول الأوروبيّة، كانت مضطرة إلى الانسحاب عسكريّاً من البلاد العربيّة، تحت ضغط ثورات الشعوب وانتفاضاتها التحرريّة، فعملت على تكريس حالة التجزئة، وتثبيت الكيانات القطريّة.
كما شجّعت التيارات المتنافرة على الصراعات العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة فيما بينها. خاصة في النزاعات المتعلقة بالحدود السياسيّة الكيانيّة المرسومة بين هذه الدول، فوضعت في غالبها بترتيب من الدول الاستعماريّة نفسها، وبشكل يستبطن إثارة النزاع والصراع الإقليمي بكل الوسائل المتاحة كما عززت التعصب القوموي الذي كان من أبرز افرازات الاستعمار حينها لتخلق حالة من عدم الاستقرار المجتمعي وتهيئة بيئة ملائمة لاقتتالات بينية قائمة على العرق واللون والطائفة والقوميّة والحدود المصطنعة.
كان حرمان الكرد من إقامة دولة لهم وتجزئة وحدتهم القوميّة ليتوزعوا على أربع دول في المنطقة، خطةً لضربِ الشعوب ببعضها وخلق حالة دائمةٍ من عدم الاستقرار والتعايش، فالكرد هم من أكثر الأطراف خسارة نتيجة المصالح الدوليّة والإقليمية. ومنذ ذلك الحين وحدود الرمال التي رُسمت وتحولت إلى حدود الدم بالحديد والنار شكلت حالة صراع مستدام لتحصيل الحقوق المسلوبة على الأرض وما عزز سلب هذه الحقوق هي الأنظمة الشوفونية التي كانت بمثابة أدوات الاحتلال بعد انسحابه.
الكرد ومعاناتهم الطويلة
ورغم أنّ سايكس بيكو لم تستثنِ أيّاً من شعوب المنطقة إلا أنّ الكردَ كانوا أكبر الخاسرين علماً أنّ المعضلة الكرديّة سبقت ذلك بكثير وكانت تعاني بشكل كبير منذ عام 1514م عقب معركة جالديران التي وقعت بين الدولة الصفويّة والعثمانيّة مخلفة نتائج غير حاسمة أدّت إلى بعثرة الإمارات الكرديّة المختلفة بمراحل متعاقبة ما خلقت اتفاقيات تتابعيّة مدججة بالتناقضات كان هدفها توحيد الجهود لتقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تشعبت المشكلة الكرديّة يومًا بعد آخر، ولاسيما بعد بدء انتشار الأفكار القوميّة في الشرق الأوسط، وصولاً إلى الاتفاقية المجحفة سايكس بيكو عام 1916 والتي حطمت الآمال الكرديّة بتوحيد كردستان.
ولسوء حظ الشعب الكرديّ كانت كردستان هي اللقمة الأشهى للابتلاع فتم تقسيمها بلا مبالاة لأربعة أجزاء وبذلك تمَّ تعميقُ جرح الشعب الكرديّ بحقِّ تقرير المصير، ثم نقل القضية الكرديّة نوعيًّا من المنظور الإقليميّ في الشرق إلى المنظور الدوليّ فيما بعد.
محاولات كرديّة حثيثة سعت لتغيير الواقع المرير وكادت هذه المحاولات أن تنجح في معاهدة سيفر 10/8/1920 لكن سياسة مصطفى كمال أتاتورك الذي استغل الصراع السياسيّ والتف على المحاولات في إيجاد حلّ للقضية الكرديّة وذلك من خلال إقناع الحلفاء بأنَّ المشكلة الكرديّة داخليّة ويمكن حلها بسهولة مع إلغاء جميع الاتفاقيات القديمة المتجسدة بحكومة الدولة العثمانيّة.
وبذلك تم الالتفاف على معاهدة سيفر التي تمنح الكرد فرصة لتقرير مصيرهم، وعقد مؤتمر لندن ووُقعت معاهدة لوزان 24/7/1924، والنتيجة توجيه ضربة قاسية للكرد مرة أخرى واستمرار سيناريو الإقصاء والقمع الجماهيريّ، وتكريس الانقسام الكرديّ وتقسيم كردستان بين أربع دول: تركيا وإيران والعراق وسوريا.
ورغم مرور أكثر من قرن لا تزال هذه الاتفاقية “قصة مفتوحة”، كما وصفها الكرد الذين يعيشون أزمات متكررة بسبب حدودها، فالجبال كانت دائماً ملاذاً آمناً للشعب الكرديّ، لكنها لم تكن بديلاً عن تحقيق الطموح السياسيّ ومنذ ذلك الحين تعقدت أوراق المعضلة الكرديّة مع بدأ عمليات التطهير العرقيّ وتذويب القوميّة في تركيا والتهميش القسريّ وسلب الحقوق في إيران، وإبادة الشعب الكرديّ في العراق، وحرمان الهوية الكرديّة واقتطاع الأراضي النفطيّة والزراعيّة في سوريا.
ليستمر هذا العهد لمدة طويلة تحت وطأة حكم الدول القوميّة التي توزع عليها الكرد، ولكن مع بقاء أمل بناء كردستان الكبير عند الشعب الكرديّ، والذي ساعد على رفع الروح الكرديّة ثم تشكيل حركات تحرريّة في السنوات الأخيرة الماضية كانت بمثابة وسيلة ضغط وتذكير بحق الشعوب بتقرير مصيرها مهما طال الزمن. لكن؛ منذ ذلك الحين ليست كردستان مقسّمة إنّما الحركات الكرديّة كانت منقسمة أيضاً وهذا الانقسام عمق الشرخ والمشكلة وأبعدها عن الحل بسبب عدم وجود موقف موحّد على الساحة الكرديّة فتحقيق الحقوق الكرديّة يعتمد بشكلٍ أساسيّ على وحدة الصف وهو ما حصل في سوريا على سبيل المثال مؤخراً بعد سقوط نظام البعث فتوحد موقف الكرد ورؤيتهم.
أغلب الأحزاب والحركات الكرديّة ترفض مفهوم الدولة القوميّة، وترى فيه سبباً للمشكلة وليس بوابة لحلِّ القضية الكرديّة وتؤكد بأنّ الأنظمة الرأسماليّة هي من عمّقت أزمات الشعوب بتصديرهم التشدد القوميّ وأنّ الحلَّ اليوم يكمن في العيش المشترك مع تحقيق كل الحقوق للشعوب المتعايشة على الأرض إلا أنّ هذا ما لم يرق للأنظمةِ القوميّةِ من ترسبات سايكس ـ بيكو التي فرضت هيمنتها على دول المنطقة بما فيها جغرافيا كردستان بأجزائها الأربعة.
هذا يقودنا بحسب مراقبين إلى الطرح الذي قدّمه القائد عبد الله أوجلان بمبادرته الأخيرة “السلام والمجتمع الديمقراطيّ” ما هي إلا ترجمة لتغيير واقع فرض من الأنظمة الرأسماليّة طيلة القرن المنصرم ولتغيير هذا الواقع يجب أن تعود الشعوب إلى مبدأ المجتمع الديمقراطيّ وذلك بنزع كلّ أسافين الخلافات العرقيّة والطائفيّة والقوميّة التي ضربت حالة الاستقرار والعيش المشترك في المنطقة لإعادة ترتيب الأوراق مجدداً والانتقال إلى حالة الاستقرار والسلام والرخاء وإعطاء جميع الشعوب حقوقها التي سلبت منها بتوافقات دوليّة وإقليميّة.