الشدادي/ حسام الدخيل ـ في ظل الأزمة المستمرة التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، تبرز تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق البلاد كنموذج سياسي واجتماعي فريد يسعى إلى ترسيخ أسس جديدة للحكم الرشيد، مرتكزًا على اللامركزية واحترام التعددية الثقافية والقومية.
تأسيس الإدارة الذاتية
استطاعت شعوب شمال وشرق سوريا وبريادة الشعب الكردي الذي ارتشف من فكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان، أن استغلال الفرصة في ربيع الشعوب الذي بدأ في تونس وانتقل إلى سوريا في الـ 15 من آذار 2011، وبفضل أبناء الشعب الذين شكلوا وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة حرروا المنطقة من مرتزقة داعش، وعقب ذلك تنظيم إداري ومؤسساتي استجابة للحاجة إلى نظام سياسي وإداري مستقر في ظل انهيار مؤسسات الدولة المركزية.
أثمر بالإعلان عن تأسيس الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة 21 كانون الثاني 2014، ومن ثم في مقاطعة الفرات 27 الشهر نفسه، وتلاها في مقاطعة عفرين 29 كانون الثاني نفسه.
وبعد توسيع دائرة التحرير في المناطق الأخرى، أُسِّست إدارات مدنية في منبج، والرقة، والطبقة، ودير الزور، وبتاريخ 2017 تم الإعلان عن فيدرالية شمال سوريا حدد التقسيمات الإدارية بثلاثة أقاليم هي الجزيرة، والفرات وعفرين، وست مقاطعات (قامشلو، والحسكة، تابعة لإقليم الجزيرة، كري سبي وكوباني تابعتين لإقليم الفرات، وعفرين والشهباء التابعتين لإقليم عفرين) فيما حددت منبج والرقة والطبقة إدارات مدنية.
تم النقاش على نمط الإدارة في المنطقة، ليعلن في السادس من أيلول عام 2018 عن تأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
وفي الثاني عشر من كانون الأول 2023 تم الإعلان عن عقد اجتماعي، حيث طرأت تغييرات على التقسيمات الإدارية، وأصبحت هناك إقليم واحد في شمال وشرق وسوريا، وسبع مقاطعات هي (عفرين والشهباء، والجزيرة، وكوباني، ومنبج، والرقة، ودير الزور، والطبقة).
مرتكزات الإدارة الذاتية
تعتمد الإدارة الذاتية على مبدأ تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بعيدًا عن هيمنة السلطة المركزية، مما يعزز المشاركة الشعبية ويمنح الشعوب التي كانت مهمشة في السابق فرصة فعلية لتفعيل طاقاتها واتخاذ قراراتها بما يتناسب مع احتياجاتها. ويؤكد القائمون على هذا المشروع أن الهدف لا يتمثل في الانفصال أو التقسيم، بل تقديم بديل واقعي وفعّال للحكم المركزي الذي فشل في تلبية تطلعات السوريين.
وقد أثبتت الإدارة الذاتية فعاليتها خلال السنوات الماضية، من خلال تحسين البنية التحتية، وتطوير قطاعي التعليم والصحة في المناطق التي عانت من الإهمال. كما ساهمت في تعزيز التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع من العرب والكرد والآشوريين والأرمن، استنادًا إلى مبادئ العدالة والمساواة، مما أسهم في ترسيخ مفهوم جديد للوحدة الوطنية.
التحديات والمعوقات
ورغم ما حققته من إنجازات، تواجه الإدارة الذاتية تحديات كبيرة تهدد استمراريتها، من أبرزها:
ـ الحصار الاقتصادي المفروض عليها من عدة أطراف، سواء في الداخلالسوري، أو من طرف تركيا، مما يؤثر سلبًا على الحركة التجارية والوضع المعيشي.
ـ هجمات دولة الاحتلال المستمرة والمتواصلة على المنطقة، واحتلالها للعديد من المناطق، وتهجير أهالي المنطقة، وبالتالي زعزعة جهود الاستقرار.
دعوات إلى الحوار
تستند تجربة الإدارة الذاتية إلى فلسفة “الأمة الديمقراطية”، التي تقوم على احترام خصوصية كل شعب وتمكينه من إدارة شؤونه ضمن إطار جامع يعزز التعددية والوحدة. ويؤكد المسؤولون فيها أن هذا النموذج قابل للتطبيق على مستوى سوريا كلها، بشرط توافر الإرادة السياسية، ونبذ الخلافات، وفتح حوار وطني شامل لا يُقصي أحدًا.
وفي هذا السياق، قال السياسي السوري أحمد الغدير: “تمثل تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا فرصة تاريخية لإعادة صياغة مفهوم الدولة السورية على أسس ديمقراطية حقيقية. لقد قدمت نموذجًا عمليًا للحكم الرشيد، يتجاوب مع تطلعات المواطنين، ويحترم تنوعهم، دون أن يهدد وحدة البلاد. المطلوب اليوم هو الاعتراف بهذه التجربة وفتح قنوات حوار جادة معها لإنقاذ ما تبقى من سوريا”.
وتابع: “وفي ظل محاولات تشويه مفهوم اللامركزية واتهامه بالسعي إلى الانفصال، تبرز هذه التجربة دليلاً واقعياً على أن اللامركزية ليست مرادفة للتقسيم، بل تمثل شكلًا من أشكال الحكم الرشيد الذي يسعى إلى تحقيق مصالح السوريين”.
نحو سوريا جديدة
في الختام، يرى الغدير، أن هذه التجربة تمثل “صمام أمان” لبناء سورياجديدة، ديمقراطية ولا مركزية، قادرة على معالجة أزماتها والانطلاق نحو مستقبل يعكس تطلعات شعبها بمكوناته.