محمد عيسى
من عمان إلى واشنطن، ومن الدوحة إلى أنطاليا، يخط رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع خارطة حضور سياسيّ غير مسبوقة، في وقتٍ تبدو فيه أبواب الإقليم والعالم مشرّعة لسوريا جديدة ما بعد الأسد… سوريا تحاول أن تنهض من رماد سنواتها الثقيلة، بشعب يتوق إلى الاستقرار، وشبكة مصالح إقليميّة ودوليّة بدأت تُعيد النظر في موقع دمشق من خرائطها.
ليس من السهل الحديث عن عودة سوريا إلى الخريطة السياسيّة الإقليميّة والدوليّة بعد ما يقارب عقداً ونصف من الحرب والقطيعة والعزلة، لكن مشهد رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني وهما يتنقلان بين عواصم العالم يحمل رسائل مزدوجة: من جهة، تؤكد هذه الزيارات أن صفحة جديدة تُفتح في دفتر السياسة السوريّة، ومن جهة أخرى، توحي بأن مرحلة ما بعد بشار الأسد ليست مجرد انتقال سلطويّ، بل انفتاح على احتمالات غير معهودة في السياسة السوريّة.
الأمن والاقتصاد على الطاولة
في السادس والعشرين من شباط 2025، حطّت طائرة رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع في مطار ماركا الدوليّ بالعاصمة الأردنيّة عمّان، في زيارة رسميّة وُصفت بأنّها ذات أبعاد رمزيّة تتجاوز البروتوكولات المعتادة. كانت هذه ثالث زيارة خارجية لرئيس المرحلة الانتقاليّة في سوريا منذ تولّيه المنصب في نهاية كانون الثاني الماضي، لكنها حملت دلالات خاصة بحكم العلاقات الجغرافيّة والتاريخيّة المتشابكة بين سوريا والأردن، إلى جانب البعد الإنسانيّ الذي يتمثل بوجود مئات آلاف اللاجئين السوريّين على الأراضي الأردنيّة منذ أكثر من عقد.
الاستقبال الأردنيّ للشرع لم يكن عادياً، إذ كان في مقدمة مستقبليه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في مشهد أعاد إلى الأذهان صور اللقاءاتِ العربيّةِ رفيعة المستوى التي كانت تُعقد قبل سنوات الحرب، حين كانت دمشق لاعباً محوريّاً في قضايا الإقليم. ورغم أنّ وكالة الأنباء الرسميّة الأردنيّة “بترا” لم تكشف الكثير عن تفاصيل برنامج الزيارة، فإنّ مصادر دبلوماسيّة أردنيّة مطلعة أشارت إلى أن المحادثات التي جمعت الجانبين تطرقت إلى عددٍ من الملفاتِ الحساسةِ، أبرزها ملف أمن الحدود ومكافحة التهريب الذي يُعدّ من أبرز التحديات المشتركة، بالإضافة إلى السعي لإعادة تحريك عجلة العلاقات التجاريّة الثنائيّة التي تعثرت منذ العام 2011 مع بدء الأزمة السوريّة.
وبعد أيام فقط، وفي الرابع من آذار، كانت العاصمة المصريّة القاهرة المحطة الثانية لرئيس سلطة دمشق أو رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وشارك في القمة العربيّة الطارئة التي دعا إليها الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي لمناقشة خطة إعادة إعمار قطاع غزة بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة. مثّلت هذه المشاركة الرسميّة فرصة ثمينة لترسيخ الحضور السوريّ في المحافلِ العربيّة مجدداً، إذ جلس الشرع على كرسي ظلّ شاغراً لعقدٍ من الزمنِ.
وفي السابع من آذار، وخلال جلسة مغلقة على هامش القمة، دعا السيسي نظيره السوريّ إلى إطلاق عمليةٍ سياسيّةٍ شاملةٍ في سوريا “لا تُقصي أحداً”، مشدداً على ضرورة انخراط جميع القوى الوطنيّة في رسم مستقبل البلاد، ومجدداً دعم مصر لوحدة سوريا ورفض أيّ تدخل أو عدوان خارجيّ يمسُّ سيادتها.
على ضفّة الحدودِ المنفلتة
في الرابع عشر من آذار 2025، وصل وزير الخارجية في الحكومة السوريّة الانتقاليّة أسعد الشيباني إلى العاصمة العراقية بغداد، في زيارة رسميّة حملت طابعاً استراتيجياً، ووُصفت الزيارة من مصادر عراقيّة بأنّها “محوريّة”، شكّلت محطة جديدة ضمن سلسلة اللقاءات التي يجريها الشيباني لتعزيز حضور سوريا في المحيط العربيّ، خصوصاً مع الدول ذات الملفات الأمنيّة المشتركة.
خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أكّد الشيباني على الأهمية القصوى لتعزيز التعاون بين البلدين، لاسيما على صعيد فتح المعابر الحدوديّة وتنشيط التبادل التجاريّ الذي تراجع بشكلٍ كبير خلال العقد الماضي. كما شدد على ضرورةِ رفع مستوى التنسيق الأمنيّ، في ظل استمرار التهديدات التي يشكلها خلايا مرتزقة داعش، الذي ما يزال يحتفظ بوجود متناثر في مناطق صحراويّة وعرة على طول الحدود السوريّة العراقية، مستفيداً من الطبيعةِ الجغرافية المعقدة وصعوبة السيطرة الكاملة عليها. لكن؛ اللافت إنّ الزيارة تزامنت مع إعلان السلطات الأمنيّة العراقيّة مقتل أحد القيادات البارزة في صفوف مرتزقة داعش خلال عملية نوعيّة، ما أعطى بعداً ميدانيّاً للمباحثات، وسلط الضوء على هذا الملف الخطير.
في هذا السياق، قال الشيباني، خلال مؤتمر صحفيّ مشترك مع نظيره العراقيّ فؤاد حسين، إنّ “التهديدات العابرة للحدودِ تفرض علينا آلياتٍ جديدةٍ للتعاون، ونقترح تشكيل مجلس سوريّ ـ عراقيّ مشترك، يُعنى بالتنسيق في المجالات الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، ويُشكّل قاعدةً لانطلاقةٍ جديدةٍ في العلاقاتِ الثنائيّةِ”.
وأكّد الشيباني أنّ بلاده تنظر إلى العراق باعتباره شريكاً استراتيجيّاً في معركةِ تثبيت الاستقرار الإقليميّ، داعياً إلى ترجمة التفاهمات إلى خطوات عمليّة، تبدأ من ضبط الحدود وتصل إلى تنشيطِ الاستثماراتِ والتكاملِ في ملفاتِ الطاقةِ والنقلِ.
سوريا على طاولة المانحين
في السابع عشر من آذار 2025، اتجهت الأنظار إلى العاصمة البلجيكيّة بروكسل، حيث عُقد المؤتمر التاسع للمانحين بشأن سوريا، بمشاركةٍ دوليّةٍ واسعةٍ، وبحضورِ وفدٍ رسميّ يمثل الحكومة السوريّة المؤقتة. كانت هذه المرة الأولى التي تحضر فيها دمشق مؤتمراً من هذا النوع بتمثيلٍ دبلوماسيّ رفيعٍ منذ اندلاع الأزمة، ما عكس تغيّراً لافتاً في المشهد السياسيّ والدوليّ المحيط بسوريا.
المؤتمر، الذي نظّمته المفوضيّةُ الأوروبيّة بالتعاون مع الأمم المتحدة، خلُص إلى الإعلان عن تعهداتٍ ماليّةٍ بلغت 5.8 مليار يورو، خُصصت لدعم مشاريع إعادة الإعمار وتحسين الواقعِ الإنسانيّ في سوريا. وأعلنت رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لايين أنّ الاتحاد الأوروبيّ سيساهم بمبلغ 2.5 مليار يورو من هذه الحزمة، في محاولةٍ لإعادةِ الزخم الدوليّ إلى ملف إعادةِ إعمارِ سوريا، بعد سنوات من الجمودِ السياسيّ والتردد الغربيّ.
غير أنّ الحدث الأبرز في المؤتمر تمثل بالكلمة التي ألقاها وزير الخارجية السوريّ أسعد الشيباني، والتي خرجت عن الخطاب التقليديّ المتكرر في مثل هذه المحافل، فقد طالب الشيباني، بوضوحٍ ودون مواربةٍ، برفع العقوباتِ الاقتصاديّةِ المفروضةِ على سوريا، معتبراً أنّ هذه الإجراءاتِ لا تؤثر على الحكومة، بقدر ما تطال حياةَ السوريين اليوميّة، وتُقيّد حركةَ التعافي والبناء، وتمنع تدفق الاستثمارات والمساعدات إلى الداخل السوريّ.
أنطاليا.. لقاءات ومصافحات دافئة
في الحادي عشر من نيسان 2025، شارك رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع في “منتدى أنطاليا الدبلوماسيّ” الذي تحتضنه تركيا سنويّاً، وذلك في ثاني زيارةٍ رسميّة له إلى تركيا خلال أقل من ثلاثة أشهر.
وفي اليوم التالي، عقد الشرع لقاءً ثنائيّاً مع الرئيس التركي رجب أردوغان، تلاه اجتماع موسّع مع رئيس الوزراء القطريّ ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ما فتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة التفاهمات التي تُنسج في الخفاء، خاصةً في ظلِّ الغيابِ الكامل لأيّ حديثٍ رسميّ عن الملفات الشائكة، وعلى رأسها العلاقة التركيّة مع المجموعات المسلحة المنتشرة في مناطق الشمال السوريّ.
البيان الرسميّ الصادر عن الخارجيّة التركيّة حاول تصوير اللقاء في إطار من الإيجابيّة، مؤكداً أنّ أنقرة “ستواصل جهودها الدبلوماسيّة لرفعِ العقوباتِ الدوليّةِ عن سوريا”، كما عبّر عن رغبةٍ تركيّةٍ بـ”إحياء العلاقاتِ الاقتصاديّة والتجاريّة بين البلدين”. إلا أنّ المتابعين رأوا في ذلك محاولةً تركيّةً لفتحِ أبوابِ الاقتصاد مع دمشق، دون تقديم أيّ تنازلات فعليّة تتعلق بالانسحابِ من الأراضي السوريّة أو إنهاء دعمها الميدانيّ للكياناتِ العسكريّة الموالية لها.
المصافحات الدافئة التي وثّقتها عدسات المصورين في أنطاليا، لم تُخفِ حقيقة أن تركيا، التي أدارت لعقد من الزمن شبكة معقدة من المصالح داخل سوريا، لا تزال تسعى لتأمين موطئ قدم دائم في المعادلة السوريّة، سواء من خلال نفوذها العسكري أو أدواتها السياسيّة والاقتصاديّة، فأنقرة – برأي كثيرين – لا تعيد تموضعها من موقع الاعتراف بالأخطاء، بل من باب استثمار التحولات، ونسج دور جديد على أنقاض الفوضى التي ساهمت في تغذيتها.
عودة إلى دفء الخليج
في الثالث عشر من نيسان 2025، حطّ رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع رحاله في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، في أول زيارة رسميّة له للإمارات منذ تولّيه مقاليد السلطة، وحمل الاستقبال الذي خصّه به الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رسائل سياسيّة متعددة الاتجاهات، أبرزها أنّ دولَ الخليج بدأت تنظر إلى سوريا الجديدة بعينٍ مختلفةٍ، بعدما تغيّرتِ المعادلات وتبدلتِ التحالفات في الإقليم. وخلال اللقاء، أكد بن زايد أن استقرار سوريا يمثل مصلحةً استراتيجية لدول المنطقة، مشدداً على التزام بلاده بدعم وحدة وسلامة الأراضي السوريّة، وفتح آفاق التعاون في مختلف المجالات.
الشرع لم يكن وحيداً في هذه الزيارة، إذ رافقه وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي استثمر الفرصةَ لعقدِ لقاءٍ خاص مع نخبة من رجال الأعمال السوريّين المقيمين في دولة الإمارات. وتمحور اللقاء حول آليات إشراك القطاع الخاص في جهودِ إعادةِ الإعمارِ، والتشجيع على ضخّ استثمارات خارج الأطر البيروقراطيّة الحكوميّة التقليديّة، بما يُسهم في إطلاقِ العجلةِ الاقتصاديّةِ وتحقيقِ عودةٍ تدريجيّةٍ للكفاءاتِ السوريّةِ المنتشرة في الخارج. وبعد يومين فقط، في الخامس عشر من نيسان، واصل الشرع جولته الخليجيّة متوجهاً إلى العاصمة القطريّة الدوحة، والتقى الأمير تميم بن حمد آل ثاني، في زيارةٍ بدت وكأنّها إعلانٌ غير مباشر عن انفتاحٍ سياسيّ متسارع بين البلدين بعد سنوات من القطيعةِ. وتناول اللقاء بحث سبل تعزيز العلاقات الثنائيّة، وفتح قنوات تنسيقٍ في الملفات الاقتصاديّة والإعلاميّة، في ظل ما وُصف بأنّه “تغيّر ملموس” في المزاج الخليجيّ حيال سوريا الجديدة. وتُوّج هذا التحولُ بإعادةِ افتتاحِ السفارةِ القطريّة في دمشق قبل بضعة أشهر، لتكونَ قطر ثاني دولة تُقدم على هذه الخطوة بعد تركيا.
وكانتِ العلاقاتُ بين الدوحة ودمشق قد بدأت بالتحسن منذ مطلع العام، حين زار الوزير الشيباني الدوحة مرتين، إحداهما في الخامس من كانون الثاني، برفقة كلّ من وزير الدفاع ومدير الاستخبارات، حيث ناقش إمكانية رفع العقوبات الدوليّة ودور قطر في تحريك هذا الملف داخل الأروقة الغربيّة.
وفي لفتةٍ دبلوماسيّةٍ بدت جزءاً من تفاهمات إقليميّة غير مُعلنة، استضافت الدوحة لقاءً مفاجئاً جمع رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع برئيس الوزراء العراقيّ محمد شياع السوداني، وذلك بوساطة قطريّة وفي أجواء من السريّة. واللقاء، الذي لم يُكشف عنه رسميّاً، جاء قبل أيام من القمة العربيّة المرتقبة في بغداد، والتي أكّد السوداني أنّها ستشهد حضوراً رسمياً للشرع، ما يُؤشر إلى أن العراق ينخرط أيضاً في مسار إعادة دمج سوريا ضمن المنظومة العربيّة، بعيداً عن الاستقطابات السابقة.
عودة إلى المؤسسات الدوليّة
في الحادي والعشرين من نيسان 2025، خطتِ الحكومةُ السوريّةُ الانتقاليّة خطوةً إضافيّة نحو إعادة تموضعها على الساحة الدوليّة، عبر مشاركة وفد رسميّ رفيع في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ في العاصمة الأمريكية واشنطن. كانت هذه أول مشاركة سوريّة من نوعها في المؤسسات المالية الدوليّة منذ أكثر من عقد، ما عكس رغبة واضحة في كسر عزلة اقتصاديّة طويلة فرضتها سنوات الحرب والعقوبات، ومحاولة لفتح نوافذ جديدة نحو التعافي الماليّ والإداريّ.
تكوّن الوفد السوريّ من وزير المالية محمد يسر برنية، وحاكم مصرف سوريا المركزيّ عبد القادر الحُصرية، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، وهو ما يعكسُ أنّ الزيارة لم تكن رمزيّة فحسب، بل حملت في طياتها رسائل واقعيّة حول نية الحكومة الانتقاليّة الدخول في حوار جاد مع المؤسسات الدوليّة الكبرى.
في تصريح مقتضب لوكالة “سانا”، أكد الوزير برنية أن المشاركة السوريّة “تهدفُ إلى فتح خطوط تواصل مباشرة مع مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليّ، والحصول على دعم تقني لتأهيل البنية المالية والمؤسساتية، وتعزيز قدرات الحكومة في مجالات إدارة الدين، السياسة النقدية، وتحفيز الاستثمار”. أما وكالة “رويترز” فركّزت على ما وصفته بـ”المحادثات المعمقة” التي خاضها الوفد السوريّ مع مسؤولي البنك الدوليّ، والتي تطرقت إلى فرص إعادة الإعمار، وإصلاح بنية الحوكمة الاقتصاديّة.
وفي الخامس والعشرين من نيسان شارك وزير الخارجية أسعد الشيباني برفع العلم السوريّ أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك وحضر جلسة لمجلس الأمن الدوليّ، وألقى كلمة أشار فيها إلى الانفتاح الدوليّ على دمشق بعد سقوط النظام، وطالب برفع العقوبات الاقتصاديّة وطالب المجلس بممارسة الضغط على إسرائيل للانسحاب من سوريا وتطبيق اتفاقية فصل القوات لعام 1974.
وفي ظل هذه التحركات الدبلوماسيّة الكثيفة من مؤتمرات المانحين في بروكسل، إلى قمم الخليج، وصولاً إلى واشنطن ونيويورك، تتحرك دمشق على أكثر من مسار، محاولةً استعادة دورها في المنظومةِ الدوليّة.
الطريق لا يزال طويلاً، محاطاً بعقبات تتراوح بين العقوبات المفروضة والملفات الداخلية العالقة، لكن ما لا شك فيه هو أن سوريا الجديدة تحاول شق طريقها، بخطى ثابتة ومدروسة، تحت أنظار العالم الذي بدأ ينظر إليها – ولو بتحفّظ – كرقمٍ عائد في معادلة الشرق الأوسط.