قامشلو/ دعاء يوسف ـ لم تكن تعرف أن نار الصاج ستكون الدفء الوحيد في أيامها، ولا أن رغيف الخبز سيغدو شهادة صمودها اليومية، سبع سنوات مضت، وهي تفرد العجين وتطويه صانعةً خبزها كما خبزت الصبر، تلمّ غربتها بأصابع مليئة بالشقوق، وتبني رغيف بسيط بيتًا من الأحلام.
في أحد أحياء قامشلو، وتحت شمسٍ لا ترحم في الصيف والبرد القارس في الشتاء، تجلس “فاطمة حسن محمد” خلف صاجها المعدني الموصول بأسطوانة غاز صغيرة، تراقب أرغفة العجين، وهي تُعرَض على النار، فتصير أرغفة طازجة تفوح منها رائحة تعب السنين. ولم تكن هذه المهنة خيارًا سهلاً، لكنها أصبحت اليوم مصدر رزقها الوحيد، وسلاحها في وجه الظروف القاسية التي تعيشها.
من الدرباسية إلى قامشلو
وبدأت “فاطمة حسن محمد” 37 سنة، رحلتها مع خبز الصاج في الدرباسية قبل سبع سنوات، حين دفعتها الحاجة إلى العمل لتأمين قوت أولادها بعد أن هجرت من دير الزور منذ عشر سنوات بسبب الحروب، لم تكن تملك سوى الصاج وشيء من العجين، لكنها امتلكت ما هو أهم: “الإرادة والكرامة”. وبعد فترة من العمل في الدرباسية، قررت الانتقال إلى مدينة قامشلو بحثًا عن فرصة أفضل، وسوق أوسع يمكنها من بيع الخبز والاستمرار في إعالة أسرتها، ورغم التغيرات والتحديات، لم تتراجع لحظة عن مهنتها، بل طورتها لتواكب احتياجات الزبائن: “أصبحت معروفة بهذه المنطقة، فالناس يأتون من حي الهلالية من أجل رغيفي، وهذا يفرحني”.
بين الغلاء والضمير
وتبيع “فاطمة”، رغيف خبز الصاج بألف وخمسمئة ليرة سورية فقط، رغم ارتفاع أسعار المواد الأولية، من الطحين إلى الغاز وحتى أكياس التعبئة: “ليست غايتي ربحية فقط، أنا أعمل للعيش بكرامة وليس للتجارة”.
وتابعت، وهي تواصل فرد العجين بخفة يدٍ اكتسبتها مع الزمن: “أوضاع الناس صعبة، ومثلي مثلهم، فالأرباح بالكاد تكفي لتغطية التكاليف الأساسية، من غاز وطحين، إلى مستلزمات العيش”.
وتعتمد على الغاز بدلًا عن الحطب، حرصًا على النظافة وسرعة الإنجاز، وتُعدّ من القليلات في مهنتها اللواتي ما زلن يداومن يوميًا رغم ضغوط الحياة، فبالرغم من الظروف، لا يظهر على وجهها إلا الصبر والرضا، إذ ترى في العمل وسيلة للحفاظ على عزتها: “إنني أعمل لأن يعيش أطفالي بكرامة، فأنا معيلة سبعة أشخاص، وعملي يغنيني عن الحاجة”.
أحلام مؤجلة على رائحة الخبز
والصعوبات التي تواجهها لا تتوقف عند الغلاء، بل تشمل أيضًا غياب الاستقرار، لا تملك فاطمة منزلًا حتى اليوم، حيث تسكن في منزل بالإيجار، لكنها تحلم بأن يأتي اليوم الذي تشتري فيه بيتًا صغيرًا يأويها وأطفالها: “نفسي أشتري منزلاً، كل عمري بين نقلات وبيوت مستأجرة، البيت أمان، وأنا تعبت”، همست بحنين وهي تنظر إلى زبون ينتظر رغيفه الساخن.
فقصة “فاطمة” ليست مجرد قصة امرأة تصنع الخبز، بل حكاية صمود حقيقي، ومثال حيّ على تصميم المرأة حينما تعشق الحياة والعمل، حياة مغموسة بالعزيمة والأمل، فمن الدرباسية إلى قامشلو، تمضي فاطمة يومًا بعد يوم، بثباتٍ وإيمانٍ بأن الكفاح اليومي هو طريق الكرامة.