حنان عثمان
في عالم تتعرض فيه الهويات الثقافية واللغوية للتآكل تحت وطأة العولمة واضطهاد الدول القومية والمركزية، تبرز المرأة ركيزة أساسية في الحفاظ على الإرث الثقافي واللغوي للمجتمعات. لا تكتفي بأن تكون ناقلة لهذا الإرث، بل تناضل لتكون فاعلاً أساسياً في تطويره وتجديده بما يتماشى مع روح العصر، دون التفريط بجوهره.
المرأة الكردية، مثال حي، لعبت دوراً استثنائياً في هذا المجال. فعبر عقود من القمع والحرمان من الحقوق الأساسية، وخاصة حق التعلم باللغة الأم، لم تتراجع الأم الكردية عن مسؤوليتها. حافظت على اللغة الكردية داخل البيت، رددت الأغاني الشعبية، ورَوَت الحكايات التي كانت تشكل ذاكرة جماعية ومصدر وعي وهوية لأطفالها. في بلدان اللجوء أو في المنافي، حيث كانت السياسات تميل إلى طمس الانتماء، كانت الأم الكردية تزرع اللغة والانتماء في قلوب الأبناء، وتحوّل البيت إلى مساحة مقاومة ثقافية.
بمناسبة يوم اللغة الكردية، تزداد الحاجة إلى تسليط الضوء على الدور الحيوي الذي تؤديه المرأة الأم في حماية اللغة من الاندثار. فالأم ليست فقط أول من يخاطب الطفل، بل هي المعلم الأول، ووسيط اللغة الأهم في سنوات التكوين. وحين تكون هذه الأم كردية، تصبح مهمتها مزدوجة: أن تمنح الحنان والرعاية، وأن تحمي لغتها من محاولات الإقصاء والنسيان. فكم من أم كردية اختارت التحدث مع أطفالها بلغتها رغم كل ظروف المنع والقمع، ورفضت أن تكون اللغة الأم غريبة في بيتها. هذه المقاومة اليومية، التي قد تبدو بسيطة، هي في جوهرها فعل نضالي هادئ، يجعل من كل كلمة كردية تُنطق في المطبخ، أو تُغنى في مهد، بذرة أمل في بقاء الهوية حيّة ومتجددة.
كما أن المرأة الكردية لم تكتف بالحفظ، بل ساهمت في تطوير الثقافة القومية عبر مشاركتها في الحركة الأدبية والفكرية والسياسية. فكم من شاعرة، أو معلمة، أو مناضلة، رفعت صوتها دفاعاً عن اللغة والهوية، وجعلت من وجودها الشخصي صرخة ضد التهميش والنسيان.
فالثقافة التي لا تتجدد عبر نسائها، تبقى معرضة للموت البطيء. والهوية التي لا تتجذر في لغة الأمهات، تفقد قدرتها على الاستمرار. إن الحفاظ على الإرث الثقافي يعتبر معركة صامتة تخوضها النساء كل يوم، وفي مقدمتهن المرأة الكردية، التي أثبتت أن الهوية الحقيقية لا تُكتب فقط في الكتب، بل تُنقش في تفاصيل الحياة اليومية، بصوت الأم، وبحبها العميق للغتها وأرضها.