شيرين شيخو
تاريخ المرأة منذ القِدم حافل بالإنجازات والابتكارات التي كانت تمثّل حقيقة المرأة؛ فقد كانت بمكانة الآلهة، وتمثل الحياة والقداسة، ولها دور كبير في قيادة المجتمعات وتربية الأجيال وتطوير أنماط العيش، واكتشاف الأدوات التي تُسهل أسلوب الحياة، فقد كانت الآلهة، والأم، والقيادية، والسياسية، والإدارية، ومنها بدأ ظهور المجتمع، إلى أن ظهرت المدنية وحصل الانقلاب الذكوري عليها في العصر النحاسي (5500 ق.م)، مما أدى إلى بدء مرحلة جديدة من تقليل شأنها ودورها، وتهميشها، وإنكارها، ورسم قوالب محدودة تُقيدها وتُكبل إمكانياتها، وتحصرها فقط في قوقعة المنزل وتربية الأطفال، ولغاية الإمتاع والإشباع.
لقد خسرت حينها المرأة مكانتها، وأصبحت مستبعدة عن كل شيء تقريباً، وسُلبت حقوقها لتصبح في أدنى الدرجات، ضعيفة وتحت رحمة القوي.
واستمرت معاناة المرأة منذ ذلك الحين، وتحديداً في ظل النظام الرأسمالي ابتداءً من عصر المانيفكتورات (الصناعة اليدوية) وصولاً إلى الثورات الصناعية في أوجها، من حالة اللامساواة في كل شيء، مع الرجل في كثير من الميادين السياسية والاجتماعية، وفي كل مجالات العمل، فقد كُن يتقاضين أجراً أدنى من الرجل بكثير، إضافة إلى عمل ساعات أكثر، فقط لكونها وُلدت امرأة في مجتمع جاهل وأحادي الفكر والسلطة ، فحتى في حقبة الملكة فيكتوريا في بريطانيا (القرن 19)، لم يكن للنساء حق التصويت، أو المقاضاة، أو الامتلاك، وكانت الطبقات الوسطى حينها ترى النساء بأنهن ينتمين إلى النطاق العائلي، وتتطلب منهن هذه الأنماط التصويرية توفير بيت نظيف لأزواجهن، وطعام على الطاولة، وتربية أولادهن، وكانت حقوق النساء محدودة جداً في هذه الحقبة، بخسران ملكية أجورهن وجميع أملاكهن، بما فيها الأراضي، وجميع ما جنينه من مال حالما يتزوجن، وكانت حقوق الزوجة شرعاً تنتقل لزوجها، فعندما يتزوج رجل فيكتوري من امرأة فيكتورية، يصبح بالقانون الزوجان كياناً واحداً يمثله الزوج، ويضعه في موضع التحكم بجميع الممتلكات والمكاسب والمال، بالإضافة إلى خسران المال والسلع المادية، تُصبح النساء الفيكتوريات إحدى ممتلكات أزواجهن، مما يعطيهم الحق فيما تنتجه أجسامهن، بمعنى الأطفال، والجنس، والعمل المنزلي ، وكان الزواج للنساء الفيكتوريات بمثابة عقد يعد الخروج منه صعباً جداً، إن لم يكن مستحيلاً خلال تلك الحقبة.
بعض هؤلاء النساء رضخن للواقع وخضعن له، إلا أن خاصية النضال والمقاومة لدى بعض النساء بقيت يقظة ولم يستسلمن، وقاومن محيطهن الداخلي وصولاً إلى الثورة في وجه السلطات السياسية المستبدة، فالحماية والدفاع عن الذات خاصية يتمتع بها كل كائن في الوجود.
إن حركة وثورة المرأة العاملة ظهرت في رحم المجتمع الرأسمالي، ولكن لظروف معينة ظلت فترة طويلة تتعثر في تقدمها، وقد اتخذت تلك الثورات أشكالاً متعددة ومتنوعة، كما كان لظهور المدارس الفكرية الأناركية، والماركسية، ولاحقاً الأوجلانية، وحركات التحرر في العالم، دور في إفساح المجال أمام المرأة لتقوم بثورتها الذهنية وتلعب دورها في المجتمع.
فقد اتخذت المرأة، نتيجة بنيتها الفيزيولوجية، طرقاً وأساليب تتناسب معها في المقاومة والدفاع عن نفسها ضد تلك الذهنية السلطوية، ولجأت إلى أسلحة أخرى، فيها الجانب الاجتماعي بارز، مثل العلم، والطب، والحقوق، والفضاء، وأبدعت فيها لتثبت بذلك نفسها وتفرض ذاتها.
لقد ناضلت تيارات ومنظمات حقوق المرأة على كل الصعد والمستويات من أجل الوصول لتحقيق المساواة، وأضربن عن الطعام والعمل على مر الزمن لتغيير القوانين الظالمة بحقهن، وفي الوقت نفسه، شاركت النساء في القوى العاملة مدفوعة الأجر بأعداد متزايدة عقب الثورة الصناعية، وبدأت آنذاك تنتشر الأفكار النسائية بين الطبقات الوسطى المتعلمة، وأُلغيت القوانين التمييزية، وناضلن إلى جانب العمال لنيل حقوقهن، وهناك أمثلة من التاريخ عن قياديات برزن في تلك المرحلة، كألكساندرا كولونتاي، المناضلة والثورية البارزة في قضية اضطهاد المرأة، والتي دعت في المؤتمر الأول لنقابات العمال في روسيا عام 1917م رجال الطبقة العاملة لدعم المساواة في الأجر للنساء العاملات، ومما قالته في خطابها: “إن العامل الواعي طبقياً يجب أن يفهم أن قيمة عمل الذكور تعتمد على قيمة عمل النساء، وأنه من خلال التهديد بإحلال العاملات النساء محل العمال الذكور مقابل أجور أقل يمكن للرأسمالي أن يخفّض أجور الرجال، فإن سوء الفهم وحده يمكن أن يؤدي بالمرء إلى أن ينظر لهذه المسألة باعتبارها قضية المرأة حسب”.
وترى عالمة الاجتماع الأمريكية ليز فوغل إنه “طالما بقي المجتمع تحت هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، والتناقض بين العمل المأجور والعمل المنزلي، فإن توسيع نطاق الديمقراطية، بغض النظر عن ذاك الاتساع، لا يمكن أبدًا أن يُلغي الاستغلال الرأسمالي، ولا يمكنه بالتالي تحرير المرأة”، وغيرهن الكثير ممن ناضلن من أجل حقوق المرأة، والأقوال التي ذكرناها، تعكس الرؤية الواضحة للرأسمال في استغلال المرأة لتحقيق مآربه.
المرأة وتجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية
في سياق مقالنا هذا، يمكن ذكر أهمية ودور المرأة ضمن تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا، حيث تلعب المرأة فيها دور الإدارية (تجربة الرئاسة المشتركة في كل المؤسسات حسب المادة 24 من العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا)، فهي المعلمة والدبلوماسية والسياسية، والمناضلة، والعسكرية، بنسبة متساوية إلى جانب الرجل، كما أن للمرأة ارتباط عميق بالطبيعة، وهي تقود الآن حملة العودة إلى الطبيعة من خلال الزراعة الطبيعية، بعيداً عن الزراعة الهرمونية، واستخدام الطب الشعبي (ثقافة قرية المرأة “جن وار” الموجودة في الحسكة)، كما تم تشكيل العديد من المؤسسات والمنظمات التي تختص بشؤون المرأة وتتابع قضاياها، مثل: مؤتمر ستار، ووقف المرأة الحرة، ومجلس المرأة السورية… إلخ.
في الختام:
يمكن القول إن المرأة كانت وستظل حاضرة على الدوام، سواءً في مضمار الكدح والعمل والتفاني فيهما من أجل رفعة الأسرة والمجتمع، أو في مضمار النضال من أجل الحرية والثورة على كل ما هو تقليدي، وإذا كان درب النضال شاقاً، “فنفس الثائرات المناضلات طويل”، كما يقال في المثل الشعبي، للوصول إلى مجتمع يعمه السلام والديمقراطية، وبالتالي الحرية، وكما قال عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني كارل ماركس: “إذا أردت أن تعرف مدى تقدم مجتمع ما، فانظر إلى وضع المرأة في ذاك المجتمع” ، وهذا ما نشهده فعلياً لدى المتأثرين بالمدرسة الأوجلانية ويُطبق فعلياً في تجربة إقليم شمال وشرق سوريا.