محمد عيسى
على وقعِ التهديدات المبطّنة، والصراخ المكبوت، انفجرت شرارة الطائفية في مدينة جرمانا، وامتدّت نحو أشرفية صحنايا والسويداء، أحداث تُعيد إلى المشهد السوري تلك الوجوه المُظلمة من الاقتتال الداخلي، وكأنّ شيئاً لم يتغيّر، وكأنّ شبح الطائفية الذي زرعته السلطة خلال نصف قرنٍ لم يمت حتى بعد رحيله، بل استعاد أنفاسه مع أول فرصةٍ للفراغ والفوضى.
هذه ليست مجرد أحداث أمنية عابرة، ولا مواجهة محدودة كما اعتاد الإعلام الرسمي أن يُصورها. إنها جولة جديدة من تداعيات ماضٍ طويلٍ من الحكم الاستبدادي، جولة كُتبت بدماء السوريين على جدران مدنهم، لتؤكد أنّ الطريق إلى السلام لن يُعبَّد ما لم تُقتلع الجذور العميقة للطائفية والعنف والتمييز، التي زرعها نظام الأسد في الوجدان السوري طيلة خمسين عاماً، حتى أصبحت جزءاً من تركيبته الذهنية والاجتماعية.
حين تُزرَع الفتنة في العقل
لم يكن الصراع الطائفي في سوريا حدثاً طارئاً على التاريخ السوري الحديث، بل كان نتاجاً ممنهجاً لصناعة الخوف والانقسام والولاءات الضيقة. خمسون عاماً من حكم عائلة الأسد، لم تُنتج سوى دولة تلوح بالشعارات الوطنية، بينما تُغذّي الانقسام في السرّ، دولة بنت أمنها على قمع التنوع، ونسجت سلطتها من خيوط الطائفة، وجعلت من الجيش والأمن أدواتٍ لحماية حكمٍ يُبقي البلاد رهينة.
ورغم سقوط الأسد، ورحيل بنيته السياسية، إلا أن الزرع المرّ لم يُقتلع. ذهنية الطائفية، وعقيدة الشك، والخوف من الآخر، واللجوء إلى السلاح بدل القانون، بقيت مزروعة في الوعي السوري، تتجلى في لحظات الانفلات، كما حصل في جرمانا وصحنايا، لتكشف أنّ مهمة الخلاص من الاستبداد لا تكتمل بمجرد تغيير السلطة، بل تحتاج إلى إعادة بناء الإنسان.
تسجيلٌ مفبرك يُشعل النار
في مساء السابع والعشرين من نيسان المنتصر، انتشر على وسائل التواصل الافتراضي تسجيلٌ صوتي نُسب زوراً لأحد أبناء مدينة جرمانا من الطائفة الدرزية، يتضمن عباراتٍ طائفية مسيئة بحق طوائف أخرى، كما حمل أيضاً إساءات واضحة إلى مقام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، في محاولة مكشوفة لإثارة أوسع فتنة دينية ومذهبية ممكنة. وقد أثار التسجيل موجة من الغضب والاستياء، إلا أن السلطات لم تُسارع إلى التحقيق أو النفي أو ملاحقة ناشري التسجيل، بل اختارت الصمت، وهو ما فُسِّر على نطاق واسع كإشارة ضمنية سمحت للمجهولين – أو للمعلومين ضمن دوائر الأمن – بإشعال نار الفتنة وإدارة الصراع من خلف الستار.
ومع الساعات الأولى من صباح الثامن والعشرين من نيسان المنصرم، بدأ تداول فيديوهات لعناصر مسلحة تُطلق تهديدات علنية بالانتقام من الطائفة الدرزية، وتُمهّد الأرضية لاشتباك دموي بدا وكأنه مُعدٌّ سلفاً بدقةٍ تثير الريبة. وتحوّلت مدينة جرمانا، المعروفة تاريخياً بتنوعها وهدوئها، إلى ساحة حرب شوارع، قبل أن تمتد ألسنة النار إلى أطراف أشرفية صحنايا، ومنها إلى عمق محافظة السويداء التي دخلت سريعاً على خط التوترات.
وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن التصعيد بلغ ذروته حين نصبت قواتٌ تابعة لوزارتي الداخلية والدفاع في الحكومة الانتقالية، بمؤازرة مجموعات مسلحة رديفة، كميناً لقافلة شبّان دروز كانوا قادمين من السويداء إلى صحنايا بهدف مؤازرة المجموعات المحلية. وأسفر الكمين عن مقتل ستة شبّان، وجرح عدد آخر، ما فجّر الغضب وأشعل المواجهات في أكثر من موقع.
لكن هذه العملية الأمنية لم تكن مجرد ردّ على تسجيلٍ صوتي مشبوه، بل كانت إعلاناً صريحاً عن دخول البلاد في طورٍ جديد من التصعيد، قوامه المواجهة العسكرية المفتوحة. وفي اليوم ذاته، اقتحمت مجموعات مسلحة تابعة للقوات الرديفة مدجنةً على أطراف صحنايا، وأعدمت داخلها مواطنين اثنين بدمٍ بارد، في جريمةٍ صادمة أعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب الطائفية التي أرّقت السوريين طوال عقدٍ كامل، وأثارت الهواجس من سيناريو فوضى منظّمة تُدار بعناية فائقة من غرف القرار الأمنية.
اشتباكات ودماء…حصيلة موجعة
بحلول مساء الأربعاء، كانت حصيلة القتلى قد ارتفعت إلى سبعة وأربعين، توزعوا بين مدينة جرمانا وأشرفية صحنايا، في مشهدٍ مؤلم يعكس مدى التوتر الطائفي والعسكري الذي خيم على المنطقة. قُتل ستة عشر عنصراً من جهاز الأمن العام التابع للحكومة الانتقالية، بالإضافة إلى عشرة من عناصر القوات الرديفة في جرمانا. وفي المقابل، سقط ثلاثة عشر مقاتلاً من المجموعات الدرزية المحلية، في معركة طائفية غير متكافئة بدأت تأخذ منحى أكثر دموية وتعقيداً مع مرور الوقت.
ورغم التدخل الأمني المكثف، لم تنجح السلطات في احتواء الموقف أو تهدئة الأوضاع، بل بدا أن تدخلها كان أحد العوامل التي ساهمت في تأجيج النزاع أكثر من كونه حلاً. على الأرض، استخدم الطرفان الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في اشتباكات عنيفة امتدت حتى ساعات الفجر، بالتزامن مع قصف مدفعي من حي النسيم باتجاه أحياء سكنية في جرمانا، ما أسفر عن مقتل أربعة عشر شخصاً، بينهم مدنيون وعناصر حكومية. تلك المشاهد تذكّر بمشاهد الحروب الطائفية التي دمرت البلاد، وخلقت مشهداً من العنف المفرط حيث تعيش كل طائفة في حالة ترقب دائم، بعيداً عن أي أفق للسلام.
في اليوم التالي، بدأت موجة النزوح تلوح في الأفق، حيث غادرت عشرات العائلات من جرمانا متجهة نحو الريف الشرقي أو حتى العاصمة دمشق، هرباً من الاضطرابات الأمنية المتصاعدة، في مشهد يعكس هشاشة الوضع الأمني في المنطقة وعجز السلطات عن فرض الاستقرار. كما غادرت ثلاث حافلات تحمل طلاباً دروزاً من محافظات أخرى، كانوا قد وصلوا إلى المدينة قبل ساعات فقط، لكنهم لم يجدوا إلا الدماء والموت، ما دفعهم للعودة سريعاً من حيث أتوا، دون أن يحققوا هدفهم في زيارة مدينة يظنون أنها ستكون أكثر أماناً.
وفي خضمّ هذا الانفجار، برز صوت شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الشيخ يوسف جربوع، الذي دعا السوريين إلى التمسك بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي، مُحذّراً من الوقوع في فخ الفتنة التي “لا تُبقي ولا تذر”. لكن هذا النداء، كغيره، بدا وكأنه صوتٌ في صحراء، لا يُسمع إلا من قلة.
فيما أعلنت وزارة الداخلية أنها فتحت تحقيقاً في التسجيل الصوتي، لكنها لم تُحدد هوية المسؤول عنه، ولم تتخذ أي إجراء احترازي جدي لطمأنة الناس، مما زاد من الشكوك حول جدية التعاطي مع الأزمة، وأعاد إلى الأذهان سياسة النظام السابق القائمة على إدارة الأزمة بدلاً من حلّها.
لم يطل الوقت حتى تحركت السويداء. شهدت المدينة الجنوبية احتجاجاتٍ غاضبة، ترافقت مع هجمات بأسلحة متوسطة وقذائف هاون استهدفت مواقع أمنية حكومية، لم تُسفر عن خسائر بشرية بحسب المصادر المحلية، لكنها حملت رسالة واضحة: الطائفة لن تصمت على قتل أبنائها.
وتطوّر المشهد سريعاً مع استهداف مسلحين مجهولين لحواجز أمنية قرب البنك العربي في أشرفية صحنايا، تخللها إطلاق قذيفة هاون وانفجار عنيف، أكد أن الأزمة باتت أكبر من أن تُدار بالبيانات واللجان.
حدود النار تتسع
في سابقةٍ خطيرة وغير مسبوقة، أعلن الجيش الإسرائيلي في التاسع والعشرين من نيسان أنه نفذ ثلاث ضربات تحذيرية في ريف دمشق، استهدفت مجموعات مسلحة قال إنها كانت تستعد لمهاجمة أبناء الطائفة الدرزية في صحنايا. وصرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن هذه الضربات جاءت في إطار ما وصفه بـ”خطوة دفاعية لحماية دروز سوريا من الجماعات المتطرفة”. ورغم أن العملية بدت محدودة من حيث النطاق، إلا أنها أضافت طبقة جديدة من التعقيد إلى المشهد الأمني السوري، وفتحت الباب أمام تدخلات إقليمية تحت غطاء “حماية المكوّنات المهددة”، في إشارة مبطّنة إلى قابلية هذا الملف للتحول إلى ذريعة مستدامة لتدخلات أجنبية مباشرة.
لكن جوهر المسألة لا يكمن فقط في الضربات الإسرائيلية، بل في الأسباب التي مهدت لها ومكّنتها. فقد جاء هذا التدخل كنتيجة مباشرة لعجز حكومة أحمد الشرع عن ضبط التوترات الداخلية، وفشلها الذريع في احتواء الفتنة الطائفية التي اشتعلت في جرمانا وصحنايا. غياب أي استراتيجية أمنية فعالة، وتخبط الأجهزة التنفيذية، وعجز الحكومة عن اتخاذ مواقف حاسمة أو مبادرات سياسية لتهدئة الوضع، كلها عوامل ساهمت في خلق فراغ أمني تحوّل إلى مبرر لإسرائيل كي تفرض نفسها كـ”حامٍ بديل” لفئة سورية محددة.
بعبارة أوضح، فإن تقاعس الحكومة الانتقالية، وسكوتها عن التحريض الطائفي، وعجزها عن حماية المدنيين، لم تفتح فقط أبواب الفتنة من الداخل، بل فتحت معها حدود البلاد أمام تدخلات خارجية، تدّعي “حماية الدروز” اليوم، وقد تدّعي غداً حماية “مكونات أخرى” إذا استمر الانهيار الأمني والشلل السياسي. وهكذا، فإن إسرائيل لم تبحث عن ذريعة بقدر ما وُضعت الذريعة أمامها على طبقٍ من فوضى، كانت حكومة الشرع أحد أبرز صنّاعها.
في المقابل، عبّر المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، عن “قلق بالغ” إزاء تصاعد العنف في دمشق وحمص، ودعا إلى إيجاد “حلول سلمية تراعي السلم الأهلي وتحترم كرامة الإنسان”. ورغم ما حمله البيان من دعوات لتسوية سلمية، إلا أن تأثيره على الأرض كان محدوداً للغاية، حيث كانت دماء الضحايا أبلغ من أي تصريح أممي. فقد كانت المشاهد الدامية في شوارع المدن السورية هي التي تملأ الأفق، بينما كانت الدعوات الدولية تذهب أدراج الرياح، دون أن تجد أصداءً فعّالة على أرض الواقع.
وإذا كانت هذه التصريحات لا تعدو كونها جزءاً من مشهد دولي يتزايد تعقيده، فإن ما يعكس بشكل أعمق الأزمة السورية هو تصريح الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية. في بيان رسمي، أشار الهجري إلى أن “الواقع السوري لم يتغير بشكل جذري، فلا يزال الشعب السوري يعاني من إقصاء واحتكار السلطة”، مضيفاً: “لم يتم حتى الآن صياغة دستورٍ يُرضي الشعب السوري، ولم يُنعقد مؤتمرٌ شعبي حرّ”. هذه الكلمات تلخص واقعاً مريراً يعكس استمرار سياسة الإقصاء والاحتكار، حتى بعد انهيار المنظومة الأسدية، في ظل غياب أفق حقيقي لتسوية سياسية شاملة تراعي حقوق جميع الشعوب السورية.
جرمانا ليست النهاية
وفي محاولةٍ أخيرة لاحتواء الأزمة، عُقد اجتماعٌ عاجل ضمّ عدداً من مسؤولي الحكومة الانتقالية وممثلين عن المجتمع الدرزي في جرمانا، جرى خلاله التوصّل إلى اتفاق مبدئي يقضي بوقف التجييش الإعلامي والطائفي، ومحاسبة المتورطين في التحريض والقتل، وتشكيل لجنة مشتركة لمتابعة الأوضاع ميدانياً. غير أن هذا الاتفاق لم يصمد سوى ساعات، إذ سرعان ما تجدّدت الاشتباكات في صحنايا، في مشهدٍ أوحى بأن القرار الفعلي لم يكن بيد الحاضرين على طاولة الحوار، بل في مكانٍ آخر، خلف الكواليس، حيث تُرسم خرائط الدم بعيداً عن العيون.
وما جرى في جرمانا لم يكن مجرد انفجارٍ طارئ أو حدثٍ منفصل، بل هو نتيجة طبيعية لعقودٍ من القمع والتفتيت المُمنهج. خمسون عاماً من حكم عائلة الأسد أنتجت مجتمعاً متآكلاً من الداخل، مشبعاً بالخوف والريبة، ومنهكاً بالهويات الفرعية والانتماءات المناطقية والطائفية، حتى بات كلّ فردٍ يشك بجاره، وكلّ مجموعة ترتاب من الأخرى. لقد صُنعت الطائفية في المختبر السياسي للنظام، ورُبّي عليها السوريون في مناهج التعليم، وأُديرت بها البلاد كأداة للسيطرة والإخضاع.
إن ما يحدث اليوم ليس إلا الحصاد المُرّ لزرعٍ خبيث طالما حذّر منه العقلاء. وسوريا، إن أرادت أن تنجو من المصير الذي ابتلع ليبيا والعراق ولبنان، عليها أولاً أن تنظر في مرآتها بصدق. أن تعترف بأن العطب في العمق، في بنية الدولة والمجتمع، في الطريقة التي شُكّلت بها النفوس قبل أن تُرسم بها الحدود. لا نهضة دون مصالحة، ولا مصالحة دون محاسبة، ولا محاسبة دون كشفٍ كامل للملفات السوداء.
إن جرمانا ليست النهاية، بل الإنذار. هي جرس الخطر الذي يدقّ قبل الانهيار الكبير. إن لم تُعَد صياغة الدولة على أسس العدالة والمواطنة، وإن لم تُبنَ الثقة من جديد بالحقيقة، فإن كل مدينة ستكون جرمانا، وكل حيّ سيكون صحنايا، وسنعود نكتب ألف مرة عن بداية الفتنة… دون أن نعرف متى ستكون نهايتها.