الشدادي/ حسام الدخيل ـ مع انقضاء صيام ستة من شوال، لا يُشعل سكان مدينة الشدادي نارًا للطعام فحسب، بل يوقدون نار ذاكرة ضاربة في الجذور، اسمها: السليقة.
السليقة ليست مجرد طبخة شعبية، بل طقس جماعي ومناسبة تكتسب من روح العيد بهجة، ومن دفء الموروث نكهة لا تُشبهها نكهة.
طعام الألفة بعد الصيام
في كل عام، بعد أن يُكمل الناس صيام ستة أيام من شهر شوال، تُبادر النسوة في الشدادي إلى إعداد السليقة، وكأنهن ينهين بها مرحلة، ويبدأن بها أخرى. تقول الخمسينية غازية العثمان، من أهل قرية البجدلي بريف مدينة الشدادي: “السليقة ما تنطبخ إلا بفرحة.. بعد ست شوال، نرتاح ونفرح، فنطبخها عربون شكر لله، وتجمّع حبايبنا”.
في بيتها الريفي، تفوح رائحة القمح المسلوق من قدرٍ كبير. تقف أمامه، تقلبه بحنان كما لو أنها تحرك ذكريات طفولتها. حولها نساء من الجيران والأقارب، بعضهن يقطعن البصل، وأخريات يجهزن العدس والحمص والفول… خليط من الحبوب، تختلط مثلما تختلط القلوب على المودة.
السليقة جمع محبة مجتمعية
تتكون السليقة من مكونات بسيطة، كلها من خير الأرض: القمح الحب (الأساس)، والحمص، والفول اليابس، والفاصوليا، واللوبيا، والعدس الأسود. كل مكون يُنقع لساعات، ثم يُضاف إلى القدر الكبير تدريجياً، ويُترك على نار هادئة حتى تتجانس المكونات. لكن؛ السرّ، كما تقول غازية، ليس في المقادير: “السر في النية الطيبة.. لما يكون القمح من تعبك، والماء من بيرك، والنية لله، تطلع السليقة شهية”.
السليقة… لقاء لا تفرّقه الظروف
في يوم السليقة، يتسابق الصغار قبل الكبار. الأطفال يملؤون الساحة، والرجال يجهّزون مكان الجلوس، بينما النساء يُشرِفن على القدور. الطقس ليس طقس طبخ، بل احتفال. يُوزَّع الخبز، وتُغمس فيه السليقة بعد أن تُقدّم في صوانٍ جماعية للحاضرين، وبقية القدر يوزع على الجيران، لكل فرد نصيب، ولكل بيت ملعقة، لكن الطعم واحد: “طعم المحبة”.
يُخبرنا العم نواف العبد الكريم، وهو رجل سبعيني عاصر أجيالاً من هذه العادة: “من وأنا صغير، أذكر أمي كانت تقول: اللي ما يطبخ سليقة بعد شوال، كأنه ما شكر الله على تمام النعمة. كانت السليقة دليل على الشكر، وعلى اللمة”.
روح الجماعة
السليقة ليست مجرد وجبة تسد الجوع، بل وسيلة لتعميق الروابط الاجتماعية. الجيران يتبادلون الأطباق، والأقارب يتهادون منها، وتُرسل إلى البيوت التي تعذر عليها الطهي. كل شخص في الحي له نصيب منها، سواء شارك في الطهي أو لا. حتى الغائبون يُذكرون في جلسة السليقة. تقول أمينة المحمد، وهي في منتصف العقد السادس من عمرها: “الله يرحم أمي، كانت تقول: أول لقمة سليقة لازم تكون للي راحوا… ندعي لهم، ونترحم عليهم”.
بين الدين والعادة
ورغم أن السليقة عادة شعبية، إلا أنها متجذّرة في الإيمان. فصيام ست من شوال سنة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، والسليقة جاءت كامتداد روحي لذلك الصيام. تصير الوجبة بمثابة “العيد الكبير” بعد عيد الفطر، فيها من الطابع الديني ما يجعلها أكثر من تقليد.
تراث لا يغيب
رغم التغيّرات التي طرأت على المدينة، والنزوح والهجرات والحروب التي مرّت بها الحسكة، بقيت السليقة راسخة. قد يتغيّر شكل القدر، أو نوع البهارات، لكن طقوس الطهي الجماعي، والتوزيع، والدعاء، ما تزال كما هي.
في الشدادي، لا يختار الناس يوم السليقة عبثًا. إنه اليوم الذي تشرق فيه الذاكرة، وتُطهو فيه المحبة، وتُقدّم في طبق يُدعى “السليقة”، لكنه في الحقيقة… قصة شعب بأكمله.