رامان آزاد
كان اندلاع الاشتباكات في مدينة جرمانا دليل جديد على هشاشة الوضع الأمنيّ، وتسبب فتيل الطائفيّة بانفجار الأحداث، التي جاءت على خلفية فريةٍ أو معلومة مضللة فبركها شخص مجهول وأطلقها في العالم الافتراضيّ. وكان من الممكن أن تقع حوادث مروّعة وترتكب مجازر لا تختلف عما جرى في مناطق الساحل السوريّ، التي جاءت أيضاً بدوافع طائفيّة، لكن وجود مجموعات حماية من أهالي جرمانا والحواجز على المداخل منع دخول المهاجمين لارتكاب القتل العشوائيّ طبقاً للتهديدات التي تم إطلاقها.
ليلة الرعب
وصفت الليلة التي عاشتها منطقة جرمانا بدمشق بأنها ليلة من الرعب، فقد أشعل تسجيلٌ صوتيّ مفبرك فتنةً طائفيّةً وتسبب باشتباكات مسلحة وخروج العديد من المظاهرات في مختلف المدن السوريّة رددت فيها شعاراتٌ طائفيّة إقصائيّة لم تخلُ من التهديدِ والوعيدِ.
الأحداث بدأت من مجرد تسجيل صوتيّ يتضمن عبارات مسيئة إلى شخص الرسول محمد “صلى الله عليه وسلم”، ونسب التسجيل لشخص من الطائفة الدرزيّة هو الشيخ مروان كيوان، وقبل التأكد من صحة التسجيل كان قد انتشر كالنار في الهشيم، لتخرج مساء الإثنين مظاهرات كبيرة في عدة مدن سوريّة.
في مدينة جرمانا اندلع التوتر فجأة بعد هجوم شنّته مجموعات مسلحة أطلقوا النار بكثافة، وأعقب ذلك موجة من التكبيرات والاشتباكات المسلحة، وسقوط قذائف هاون، ما أدى إلى حالة من الذعر والقلق بين الأهالي.
بدأ إطلاق النار في الهواء، واجتاز المسلحون حاجزاً أمنيّاً عند مدخل المدينة التي عاشت يوماً عادياً جداً، وكانت الحياة طبيعيّة تماماً، وكان إطلاق نار كثيفاً دون أيّ إنذار أو مبرر واضح. وعمّت حالة الاستنفار مدينة جرمانا فور اندلاع الاشتباكات، واستنفرت كلّ المنطقة، وخرج أبناء جميع الطوائف، حتى من يملكون السلاح من المدنيين، وقد شعروا بأنّ الخطر يهددهم جميعاً دون استثناء.
تزامن ذلك مع تداول مقاطع مصوّرة تُظهر أرتالا مسلحة تحمل شعارات طائفيّة وهي تتوجه نحو المدينة، قادمة من طرق تتحكم بها حواجز أمنية في العاصمة دمشق. وأفادت مصادر محلية أن المهاجمين استخدموا أسلحة خفيفة ومتوسطة، في حين ردّت مجموعات مدنية من أهالي المدينة دفاعا عن أحيائهم
وأودت الاشتباكات الدامية بحياة 14 شخصاً على الأقل، وهم سبعة مقاتلين محليين من الدروز، وسبعة من قوات الأمن والمقاتلين الموالين لها، بحسب المرصد السوريّ لحقوق الإنسان.
كما اندلعت اشتباكات أخرى في بلدة أشرفية صحنايا؛ والتي تُعرف بأنها تجمع سكانيّ يغلب عليه أتباع الطائفة الدرزيّة، وأسفرت عن وقوع إصابات بين أبناء البلدة. وعليه فرض حالة حظر تجوال في جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا وسط استنفار أمنيّ شديد.
كما خرجت مظاهرات ليليّة في ساحة الأمويين بدمشق وشهدت مدن إدلب، طرطوس، اللاذقية، جبلة، حمص، حماة، درعا وغيرها، خروج مظاهرات غاضبة تحت عنوان نصرةِ النبي “صلى الله عليه وسلم”.
وفي المدينة الجامعيّة في حمص هاجم عدد من الشبان غرف طلاب من محافظة السويداء داخل السكن. وسات حالة توتر ووقعت مشادات واعتداءات وأطلقت شعارات طائفيّة، لتتدخل على إثرها قوات الأمن لفضِّ التوتر.
ونشر المدير العام للمدينة الجامعيّة في حمص توضيحاً حول الأحداث التي وقعت في المدينة الجامعية في حمص. وقال في منشور على صفحة الهيئة العامة للمدينة الجامعية في حمص: “نتيجة لفيديو متداول على مواقع التواصل الافتراضي، قامت مجموعة من الطلاب بالنزول إلى ساحة المدينة الجامعية للتعبير عن غضبهم، وقد تم احتواء الموضوع مباشرةً، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الأحداث بالتنسيق مع جهاز الأمن العام”. وأكد المدير أنّ المدينة آمنة وهادئة ولا شيء يدعو للقلق مبيناً أن “الجامعة تقف على مسافة واحدة من جميع الطلاب وتدعو الى عدم الانجرار وراء الشائعات والفتن”.
أعلنت وزارة الداخليّة في الحكومة المؤقتة في بيان لها صباح الثلاثاء، أنّها تتابع “باهتمام بالغ” ما تم تداوله عبر وسائل التواصل الافتراضي بشأن التسجيل الصوتيّ المسيء. وأوضحت أنه “انطلاقاً من مسؤولياتها الوطنيّة، باشرت الجهات المختصة تحقيقاتها المكثفة في هذا الشأن، إذ تبين من خلال التحريات الأوليّة أن الشخص الذي وجهت إليه أصابع الاتهام لم تثبت نسبة الصوتيّة المتداولة إليه”.
وشددت الوزارة، على أنّ “العمل لا يزال جارياً لتحديد هوية صاحب الصوت، ليقدم إلى العدالة وينال العقوبة الرادعة التي يستحقها وفقاً للأنظمة والقوانين المعمول بها”.
وقد أصدر المكتب الإعلاميّ في وزارة الداخليّة عدة بيانات رسميّة يؤكد فيها استمرار التحقيقات لكشف هوية صاحب التسجيل الصوتيّ. وأشار البيان إلى أن بعض المسلحين الذين شاركوا في الاشتباكات ينتمون إلى المنطقة، في حين جاء آخرون من خارجها. كما أكدت الوزارة في بيان لاحق أنّ “الوحدات الأمنيّة، مدعومة بقوات من وزارة الدفاع، تدخلت لفض الاشتباكات وفرض طوق أمني حول جرمانا للحفاظ على السلم المجتمعي ومنع تكرار الحادثة”.
من جهته نفى الشيخ مروان كيوان التسجيل المنسوب إليه وقال في مقطع مصوّر، إنّ من فعل هذه الفعلة هو رجلٌ شريرٌ يريد إيقاع الفتنة بين مكونات الشعب السوريّ”.
اتفاق تهدئة بعد الاشتباكات الدامية
توصل ممثلون عن سلطات دمشق ووجهاء من مدينة جرمانا الدرزيّة، إلى اتفاق لاحتواء التصعيد الطائفيّ وتضمن ضمان إعادة الحقوق وجبر الضرر لذوي الضحايا ومحاسبة المتورطين وتوضيح حقيقة ما جرى إعلاميّاً وتعهد الطرفان بـ”محاسبة المتورطين في الهجوم الأخير وتقديمهم للقضاء العادل”، إلى جانب “ضبط الخطاب الإعلاميّ والحدّ من التجييش الطائفيّ والمناطقيّ”، في مسعى لإعادة الاستقرار إلى المنطقة.
وتضمنت الوثيقة التزاماً حكوميّاً بتنفيذ كافة بنود الاتفاق فوراً، في ظل تأكيدات رسميّة باستمرار التحقيقات لتحديد الجهة المسؤولة عن نشر التسجيل الصوتيّ، الذي كان بمثابة الشرارة لانفجار العنف.
وشهدت المدينة انتشاراً أمنياً كثيفاً شمل عناصر من وزارتي الداخلية والدفاع، كما شوهدت طائرات مسيّرة تحلّق في سماء المنطقة. وأفاد شهود عيان بأن الحياة العامة كانت شبه مشلولة صباح الثلاثاء، مع إغلاق معظم المحال التجارية وبقاء السكان في منازلهم خشية تجدد الاشتباكات.
استمرار التوتر بعد الاتفاق
مساء الثلاثاء سقطت قذيفتا هاون في قرية بريف السويداء الغربي دون تسجيل إصابات بشريّة، فيما استنفرت الفصائل المحليّة بحسب صفحة السويداء 24. وساد بعده هدوء حذر في القرية. وشهد محيط بلدة الثعلة بريف السويداء الغربيّ تبادلاً لإطلاق النار بين مسلحين مجهولين، فيما ردت مجموعات الحماية الأهليّة على مصادر النيران.
وأفادت مصادر محليّة باستمرار الهجوم على عدة محاور على مدينة أشرفية صحنايا، وأشارت المصادر إلى أنّ الهجوم يبدو منسقاً تنفذه جماعات متشددة تطلق النار عشوائيّاً باتجاه الأحياء السكنيّة. في ظل صمتٍ رسميّ من السلطاتِ، رغم مشاركة عناصر من الأمن العام مع المجموعات المحليّة بالمدينة بالتصدّي للهجوم الأول.
وبسبب الاشتباكات تم إجلاء مئات الطلاب من أبناء السويداء من مدينة جرمانا إلى مدينة شهبا، تحت حماية مشددة.
تنديد المراجع الدينيّة
وأصدر الرئيس الروحيّ المسلمين الموحدين الشيخ حكمت سلمان الهجريّ، بياناً نُشر على الصفحة الرسميّة للرئاسة الروحيّة. قال فيه، لا زلنا تحت وطأة فكر اللون الواحد والإقصاء أو الفرض وعدم الاستماع لما يجب أن يكون، فكما كان النظام البائد الذي لا تزال مفاسده مخيمة على الأداء الحالي بل وأكثر عمقاً وفتنة في الوضع الراهن لما تأخذه من عناوين طائفيّة ممنهجة، وهذا ما نرفضه كسوريين لأنّه لا يخدم مصلحتنا العامة ببناء دولة القانون والمواطنة وتساءل البيان: “أين هو الأمن الذي وعدنا به وسط استمرار التحريض الطائفيّ دون محاسبة أو توجيه ولا إدانة من أحد”.
كما أصدرت مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز بياناً بتوقيع شيخي العقل الشيخ يوسف جربوع وسماحة الشيخ حمود الحناوي حول الأحداث الأخيرة.
ونددت الهيئة الروحيّة لطائفة الموحدين الدروز في جرمانا بـ”الهجوم غير المبرر”، الذي استُخدمت فيه مختلف أنواع الأسلحة، واستهدف المدنيين الأبرياء، وروَّع السكان الآمنين بغير وجه حق. وحمّلت سلطات دمشق “المسؤوليّة الكاملة عمّا جرى وأيّ تصعيدٍ محتمل”. وأشارت إلى أنّه يجب عليها التحرك فوراً لوقف هذا الاعتداء السافر وضمان عدم تكراره وشددت على أهميّة حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، ودعت إلى ضبط النفس والحفاظ على السلم الأهليّ. وذكر البيان أنّ غالبية الضحايا والمصابين من أبناء المدينة هم من منتسبي جهاز الأمن العام، وكانوا في مواقع عملهم حينما فاجأتهم يد الغدر والعدوان.
بيانات حكوميّة وانتقادات
وعلى خلفية التوترات التي شهدتها مدينة جرمانا فجر الثلاثاء، تحركت وزارتي “الأوقاف” و”العدل” في الحكومة المؤقتة، إلا أنّ بيان الوزارتين قوبل بانتقادات لاذعة من قبل شريحة واسعة من السوريين.
وقال المتحدث باسم “وزارة الأوقاف السورية”، أحمد الحلاق، في بيان، إنّ الوزارة تتابع الموضوع باهتمام بالغ انطلاقاً من “حرصها العميق على حماية المقدسات والرموز الدينية التي تشكل ركيزة جوهرية في هويتنا الدينية والوطنية”.
أصدرت “وزارة العدل السورية” بيانا قالت فيه إنها “تتابع الأحداث الأخيرة في جرمانا، وتؤكّد أهمية اللجوء إلى القضاء كسبيل مشروع لمحاسبة المجرمين ومثيري الفتن، وذلك من خلال الإجراءات القانونية المعمول بها”. وأردفت: “في إطار حرصها على حماية المقدسات والرموز الدينية، أكدت الوزارة أنّها لن تتهاون في ملاحقة الاعتداءات، خاصة تلك الموجهة إلى جناب الرسول الأعظم محمد”.
ودعت وزارة العدل السوري” المواطنين للالتزام بأحكام القانون وتجنب الانجرار نحو خطاب الفتنة والتجييش، إذ إن هذه الأفعال تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون.
حملات دعويّة
وفي مشهد يجدد مخاوف السوريين بشأن الحريات نتيجة تزايد الحملات الدينيّة المتشددة، شهدت جامعة دمشق نشاطاً لمجموعةٍ من السوريين وُصفوا بأنّهم “دعاة سلفيون”، أطلقوا حملة دعويّة تحت عنوان “خير أمة”. وتضمنت الحملة لصق منشوراتٍ تروّج لأفكار ذات خلفيات دينيّة متشددة على مباني ومرافق كلية الطب البشريّ وطب الأسنان والصيدلة، بالإضافة إلى المعهد العالي ومحيطه في جامعة دمشق.
وقد أثار هذا النشاط استياءً وجدالات واسعة في الأوساط السوريّة، وسط تحذيرات من مخاطر تغلغل الفكر المتشدد في الحرم الجامعيّ، في وقت تعيش البلاد تحت وطأة أزمات اقتصاديّة واجتماعية وسياسية معقدة.
الحملة الدعويّة لم تكن الأولى، ففي شهر آذار الماضي تداولت مواقع التواصل الاجتماعيّ مقاطع مصوّرة تظهر فيها “سيارات الدعوة” تجوب شوارع عدة مناطق بدمشق، مثل الدويلعة وباب شرقي، والتي تعيش فيها نسبة كبيرة من المسيحيين ودعت إلى الأسلمة واستخدمت عبارات التحذير، ولا تخلو الخطابات الدعويّة من التوجه إلى النساء بارتداء الحجاب “الشرعيّ”.
يناقض انتشار الحملات الدينية المتشددة في سوريا، طبيعة البيئة الاجتماعيّة والثقافيّة المتنوعة، ويشكّل تهديداً له، وقد تؤدي مثل هذه الحملات الدعوية إلى مزيد من الاستقطاب والانقسام بين مكونات المجتمع السوريّ، وتثير الجدل والاحتقان، وتفتح المجال للفتنة الطائفيّة في مجتمع لم يبرأ بعد من ظروف الأزمة وجراحات الحرب المزمنة ولا زال يشهد التوتر ودعوات إلى الانتقام من العهد البائد ورموزه.
الحادث أكد المؤكد، بأنّ الوضع في سوريا من الهشاشة معرض للتدحرج إلى دوامةِ العنف الطائفيّ لمجرد تسجيل مجهول صاحبه، فالاحتقان بلغ حدّه الأقصى، كأكوام القش بانتظار شرارة صغيرة ليتحول إلى حريقٍ. وما حصل في جرمانا ليس حادثاً منفصلاً أو عرضيّاً، بل جرس إنذار لما قد تنزلق إليه البلاد إذا استمرّ التهاون مع حملات التحريض الطائفيّ وخطاب الكراهية.
وتعيدُ التهديدات التي طالت طائفة الموحدين الدروز، والاشتباكات العنيفة التي أعقبتها، إلى الأذهان مشاهد القتل المروّعة التي حصلت في الساحل السوريّ. وتكرار مثل الحوادث والجرائم يُنذر بدخول سوريا إلى نفق مظلم لا سبيل للخروج لينهار معها ما بقي من الاستقرار الهش أصلاً.