إبراهيم ابراهيم
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات العالمية، لم يعد ممكنًا الركون إلى أنماط التفكير التقليدية في تعريف الهوية والانتماء. فالقومية، رغم دورها التاريخي في تشكيل الدول وتوحيد الشعوب، لم يعد الإطار الوحيد أو الأنجع لتنظيم العلاقات بين البشر.
تطفو على السطح اليوم أسئلة جديدة: ما الذي يجمع الناس فعلًا؟ هل تكفي اللغة أو التاريخ أو الدين لبناء وحدة حقيقية؟ أم أن مصالح الناس وكرامتهم هي الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه المجتمعات؟
القومية.. مشروع هش في واقعٍ مُتغيّر
إذا نظرنا إلى تجارب الشعوب، نجد أن الرابطة القومية لم تكن دائمًا سببًا كافيًا أو مستقرًا لتوحيد المجتمعات، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان في محاضرته الشهيرة “ما هي الأمة؟” عام 1882: “الأمة ليست قائمة على وحدة العِرق أو اللغة، بل على الإرادة المشتركة للعيش معًا والموافقة على ميراث مشترك من الذكريات” هذا التعريف يُضعف الاعتقاد بأن الانتماء القومي وحده يكفي لتأسيس تماسك اجتماعي دائم.
فعلى سبيل المثال، لم يكن توحيد الألمان في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مدفوعًا فقط بانتمائهم القومي المشترك، بل بالأحرى بمصالح اقتصادية، وطموحات فردية وجماعية في تحسين شروط الحياة. الأمر ذاته يُلاحظ في الحالة اليمنية، والكوريتين، حيث لم تنجح الهوية القومية الموحدة في رأب الانقسام أو تهدئة التوترات.
المصالح والكرامة كقاعدةٍ للعلاقات
يرى المفكر الألماني إيمانويل كانط في مشروعه للفكر الأخلاقي والسياسي إن العلاقات بين البشر والدول يجب أن تُبنى على “الاحترام المتبادل” و”الغايات الإنسانية المشتركة”، لا على الهيمنة أو الخصوصية الثقافية.
وهذا ما نراه اليوم في تطور المفاهيم السياسية العالمية نحو الشراكات القائمة على المصالح، واحترام الكرامة الإنسانية كأساس مشترك. كما عبّر المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مشروعه “نقد العقل العربي” عن الحاجة إلى تجاوز “الهويات المغلقة” التي تُنتج الانغلاق والتقوقع، داعيًا إلى “عقلانية منفتحة” تجعل من الإنسان مركزًا للتفكير والمعنى.
الثقافة كهويةٍ إنسانية متعددة الأصوات
ورغم تنوّع اللغات والعادات والأنظمة الاجتماعية، إلا أن الثقافة الإنسانية ـ كما يراها المفكر الفرنسي بول ريكور ـ ليست وحدة متجانسة، بل “تعدد في إطار المعنى الواحد”.
ويقصد بذلك أن الثقافات المختلفة تعبّر عن تطلعات إنسانية واحدة: الكرامة، العدالة، الحرية، والمعنى أما الفيلسوف العربي أبو حيان التوحيدي، في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”، فقد أشار منذ القرن الرابع الهجري إلى فكرة قريبة حين قال: “الناس بخير ما تعارفوا، فإذا اختلفوا وتناكروا، ضاع الحق بينهم.” وكأنه يستبق بحدسه الثقافي الفكرة الحديثة حول أهمية التلاقي الإنساني فوق الانتماءات الضيقة.
نحو وعي جديد
نحن بحاجة إلى نموذج جديد من الانتماء، لا يُلغي الهويات بل يُعيد تأطيرها ضمن مشروع إنساني جامع. مشروع لا يُقصي الاختلاف، بل يعترف به كشرطٍ للتكامل. وكما يقول الفيلسوف جاك دريدا: “الهوية لا تُبنى إلا في مواجهة الآخر، لكنها لا تكتمل إلا بالاعتراف به.”
الهوية إذًا، ليست ما يُورث فقط، بل ما يُخترع ويُعاد بناؤه في كل لحظة تفاعل مع الآخر. في هذا السياق الإشكالي للهوية والانتماء، إننا لا يمكن إغفال أن من يتمسكون بانتماءاتهم القومية أو الدينية أو حتى السياسية بشكلٍ متصلب، هم في الغالب أولئك الذين يفتقرون إلى الثقة بقدرة هويتهم على البقاء والانفتاح في وجه الحداثة، فالخوف من الذوبان في “بوتقة العالم” يدفع البعض إلى الانكفاء، لا إلى الاندماج الخلاق، وهم في هذا المعنى، لا يدافعون عن هوية قوية، بل عن قوقعة هشّة تخشى التغيير.
إذاً لم تعد القومية كمفهومٍ وأيديولوجيا وحدها القادرة على حمل طموحات الإنسان المعاصر، فالعصر الجديد بكل ما يحمل من مسارات يتطلب عقداً إنسانيًا جديداً يقوم على المبادئ الكونية للعدالة والكرامة والمساواة.
ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بإعادة تعريف الهوية: لا باعتبارها سجنًا عرقيًا أو دينيًا، بل بوصفها مشروعًا مشتركًا لبناء عالم أكثر عدلًا، وتفاهمًا، وإنسانية