دجوار أحمد آغا
عندما تجد الدول والأنظمة الديكتاتورية والقمعية نفسها عاجزة عن السيطرة على شعب ما، وخاصةً عندما تكون هذه الأنظمة محتلة لوطن هذا الشعب، تتجه إلى تنفيذ سياسات قائمة على الإبادة العرقية من خلال ارتكاب المجازر والمذابح بحق هذه الشعوب وبالتالي التخلص منها نهائياً. الأتراك ومنذ قدوم أجدادهم العثمانيين إلى المنطقة منذ حوالي 1000 عام، وبعد أن تمكّنوا من السيطرة على المنطقة مستغلين الدين الإسلامي وإنشاء سلطنة عثمانية ومن خلالها توجهوا إلى أوروبا وصولاً حتى أبواب العاصمة النمساوية فيينا تحت مسمّى فتوحات إسلامية، لكنها في حقيقة الأمر كانت احتلال لتلك البلدان.
الدولة القومية التركية التي تأسست على أنقاض السلطنة العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتشكيل عصبة الأمم وحصول الكثير من الشعوب التي كانت خاضعة لاحتلال السلطنة العثمانية (العرب، البلغار، اليونانيين، شعوب البلقان، وغيرهم)، مارست هذه الدولة الوليدة سياسة السلطنة العثمانية نفسها القائمة على ارتكاب المذابح والمجازر بحق شعوب المنطقة خاصةً الأرمن، السريان والآشور، الكرد والعرب الذين بقيت أجزاء من أوطانهم وشعوبهم ضمن حدود الدولة القومية التركية.
مجزرة قره جوخ 2017
في الخامس والعشرين من نيسان 2017 قامت الطائرات الحربية التابعة لدول الاحتلال التركي بخرق الأجواء السوريّة في مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريا، حيث قامت 26 طائرة حربية بقصف جبل قره جوخ الذي وبسبب ارتفاعه وموقعه المناسب، كان قد أصبح مقراً للإذاعة الأولى التي سُميت “روج آفا أف أم” والتي أطلقها كونفدراسيون الطلبة الكرد وقتها، كما أصبح مركز تجمع وتدريب للمتطوعين إلى صفوف وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة التي اتّخذت من الجبل مقراً عاماً لها، هذا الهجوم الوحشي الذي خلّف ورائه مجزرة أدت الى استشهاد وإصابة 38 مقاتلة ومقاتل من وحدات المرأة والشعب من ضمنهم كان أحد القادة المسؤولين عن سير المعارك ضد مرتزقة داعش في حملة تحرير الرقة القائد الشهيد رستم زيدان “محمد خليل”، بالإضافة الى استشهاد أربعة إعلاميين من كادر إذاعة “روج آفا أف إم”.
لم يكن هذا الهجوم مصادفة على الإطلاق، بل جاء متزامناً مع الحملة التي بدأتها وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة في مواجهة داعش الإرهابي في الرقة هذه الحملة التي كانت تسير بقوة وتقوم بضرب داعش ضربات موجعة الأمر الذي دفع بدولة الاحتلال التركي إلى ضرب قره جوخ والعمل على إبطاء هذا الهجوم الناجح من جانب هذه القوات وإشغالهم بأمور أخرى وبالتالي تخفيف الضغط على داعش الإرهابي.
مجازر السيفو
تُعدّ مجازر “السيفو” التي بدأت عملياً في 1915 في طور عابدين واستمرت لغاية 1923 وشملت مناطق نصيبين، ماردين، الرها، حران، وصولاً إلى دير الزور، التي قامت بها السلطات العثمانية بحق الشعب السرياني والآشور والكلدان من أبشع الجرائم في تاريخ البشرية، ولعل تسميتها بـ “السيفو” يدل على مدى وحشية وهمجية العدو التي مارسها بعنف من خلال ضرب أعناق أبناء وبنات الشعب السرياني الآشوري الكلداني بالسيف. بتاريخ التاسع من نيسان 1915 قام والي آمد (ديار بكر) بإصدار أمر للجيش باعتقال جميع وجهاء المجتمع المسيحي والزعماء السياسيين حيث تم اعتقال حوالي 1200 والزج بهم في سجون ومعتقلات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة وتم تعريضهم لمختلف أنواع التعذيب البشعة مثل كي أجسادهم بالحديد والنار، تقطيع الأصابع والآذان، قلع الأظافر، إلى جانب التمثيل بالجثث بعد قتلها.
أسفرت هذه المجازر وعمليات الإبادة والمذابح، عن مصرع مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم مسيحيون. يكفي أن نشير إلى إنه في آمد وحدها تم تدمير 236 قرية وبلدة ومدينة وتحطيم 16 كنيسة وقتل 155 راهباً، إلى جانب عمليات السلب والنهب والاغتصاب والسبي، هذه الجرائم الشنيعة سببت الكثير من الآلام للسريان والآشوريين والكلدان ولنا جميعاً.
مجازر الأرمن الأولى “الحميدية”
معروف عن الشعب الأرمني أنه شعب مسالم، لا يعتدي على أحد بل يقوم بتقديم المساعدة ومد يد العون لمن يحتاج، وكان الأرمن والكرد والآشور والسريان والعرب يعيشون معاً في العديد من المدن والبلدات والقرى المتداخلة دون حدوث أية أعمال عدائية بينهم، لكن السلطات العثمانية ومن بعدها خليفتها التركية، كانوا يمارسون سياسة التفرقة بين الشعوب وارتكاب المجازر بحقهم. عملياً بدأت مجازر الأرمن في منطقة ساسون سنة 1894 حيث قتلت الدولة العثمانية المحتلة الآلاف من الأرمن تحت حجة عدم دفع ضريبة للخزينة العثمانية. ولدى خروج الأرمن بمظاهرة في إسطنبول ضد هذه الأعمال العدائية، مارست السلطات العثمانية القتل بحقهم وارتكبت مجزرة جديدة ومن ثم توسعت عمليات ارتكاب المذابح التي عُرفت بمجازر “مذابح” الحميدية كون من ارتكبوها كانوا من الفرسان الحميدية وبشكلٍ ممنهج وتحت دعاية تحريضية لقتل “الأرمن الكفار” الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم أرمن. عشرات الآلاف فقدوا حياتهم بطرق همجية وبعيدة كل البعد عن الإنسانية ما يعكس حقيقة السياسة العثمانية القائمة على إبادة الشعوب التي ترفض الخضوع والوقوع تحت سيطرتها.
مجازر الأرمن الثانية
بعد إحكام الطغاة الثلاث (جمال باشا، طلعت باشا، أنور باشا) قبضتهم على الحكم في السلطنة العثمانية بشكل فعلي، وفي ظلِّ خسارة القوات العثمانية للحرب على الجبهة الروسية مع تواجد الأرمن في تلك المنطقة، وكنوعٍ من الانتقام لخسارتها في حرب البلقان (1912 ـ 1913) في مواجهة القوى الأوروبية وإلقاء اللوم في هذه الخسارة على خيانة المسيحيين في البلقان، بدأوا بارتكاب مجازر جديدة بحق الأرمن بالدرجة الأولى.
سار طلعت باشا على الطريق نفسه الذي سار عليه قبله “الفرسان الحميدية” حيث قام في 24 نيسان 1915 بإصدار أمر باعتقال 250 من المثقفين ونواب في البرلمان العثماني رجال الفكر والسياسة الأرمن في إسطنبول ومن ثم قتلهم، وفي أيار من العام نفسه، أصدر البرلمان العثماني قرار الإبادة بحق الأرمن من خلال ما أسموه بنقل الأرمن من مناطقهم على الحدود الروسية إلى مناطق بعيدة وصلت حتى دير الزور جنوباً، هذه الحملة التي تعتبر أكبر حملة إبادة في تاريخ البشرية وراح ضحيتها ما لا يقل عن مليون ونص شهيد سواء بسبب الجوع والعطش، أو عبر القتل الجماعي الذي كانت تنفذه المليشيات العثمانية المرافقة للمهجّرين.
مجازر العرب 1916
لمدة 400 عام احتل العثمانيون البلاد العربية، سرقوا ثرواتها الوطنية، قتلوا النخبة المثقفة والطليعية، دمروا المجتمع من الداخل وعملوا على خلق أتباع لهم في الداخل سعياً منهم لربط هذه الشعوب بها حتى بعد انتهاء الاحتلال العملي لها. العرب فقدوا عشرات الآلاف من الشبان المجنّدين في صفوف الجيش الإنكشاري العثماني وكذلك فإن المجاعة التي حصلت في بلاد الشام سنة 1915 حصدت أرواح ما لا يقل عن نصف مليون مواطن عربي، بحسب ما ذكره جورج أنطونيوس في كتابه “يقظة العرب – تاريخ حركة العرب القومية”.
لا ننسى بطبيعة الحال شهداء السادس من أيار 1916 الذين أعدمهم السفاح جمال باشا في كلاً من دمشق وبيروت، كما أن ابن إياس يتحدث في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور “بأن العثمانيون ارتكبوا خلال فترة حكمهم فظائع إنسانية، فقد قتلوا الآلاف من المصريين والعرب في مذابح جماعية وعلّقوا جثث قادة المماليك في الشوارع من بينهم “طومان باي” كما نهبوا المنازل والمتاجر ومثّلوا بجثث القتلى”.
مجازر الساحل 2025
بعد سقوط نظام البعث في الثامن من كانون الأول 2024 والمجتمع العلوي يعيش في حالة من الخوف والترقب. الخوف من المستقبل المجهول في ظل تغير التوازنات المحلية والإقليمية والدولية خاصةً مع هروب بشار الأسد تحت جنح الظلام وترك المجتمع العلوي الذي ينتمي إليه ولطالما اعتمد على الكثير من شبانه في تعزيز حكمه.
ولأن المجتمع العلوي لم يكن منظماً ولديه قوة تستطيع حمايته في حال سقوط النظام، فقد تعرض إلى مجازر بشعة من جانب مجموعات متطرفة معظمها أجنبية قامت في بداية آذار 2025 بالهجوم على مناطق الساحل السوري (بانياس، طرطوس، جبلة، اللاذقية، القرداحة، إلى جانب الأحياء العلوية في حمص) وارتكبت فظائع بحق أبناء وأهالي المنطقة ترتقي إلى مستوى جرائم حرب وإبادة. بطبيعة الحال كان لتركيا دوراً مهماً في ذلك من خلال دعمها لهذه المجموعات المرتزقة والمتطرفة.
الآلاف من العوائل تركوا منازلهم وهربوا إلى الجبال وإلى القاعدة الروسية في حميميم، بينما سقط الآلاف منهم ضحايا هذه المجازر الهمجية التي تم في الكثير منها إبادة عوائل بأكملها، ولعل صورة تلك الأم التي يطلب منها المجرمون استلام جثة ولديها أكبر دليل على حجم المأساة التي لحقت بأهلنا في الساحل السوري العزيز.
ختاماً
هذه هي السياسة التي تمارسها دولة الاحتلال التركي بحق شعوب المنطقة عموماً والشعب الكردي على وجه الخصوص. سياسة قائمة على الاستمرار في ارتكاب المذابح والمجازر وصولاً الى الإبادة الجماعية. سلسلة المجازر التي بدأت في 25 نيسان 2017 من خلال قصفها الهمجي لجبل قره جوخ، استمرت الى يومنا هذا ولم تتوقف، فقد ارتكبت العديد من المجازر خاصةً في المناطق المحتلة مثل عفرين 2018، سري كانيه وكري سبي 2019، تقل بقل في 2022، حمزة بك 2023، محطة النفط في السويدية 2024، والمجازر الشبه يومية التي ارتكبتها خلال الربع الأول من العام 2025 في محور سد الشهداء (سد تشرين سابقاً) وجسر قره قوزاق وأرياف منبج وكوباني وعين عيسى.
لكن ليعلم الصديق قبل العدو بأن شعوباً قررت الحياة بحرية وكرامة سوية واختلطت دماء أبناؤها وبناتها، لن تكون هناك أية قوة في العالم قادرة على الوقوف في وجهها. مهما كانت التضحيات جسيمة، لكن شعوبنا هنا في شمال وشرق سوريا، تخوض حرب الشعب الثورية وتقف بقوة إلى جانب أبنائها وبناتها الذين يقاتلون العدو المحتل في جبهات القتال وتساعدهم وترفع من معنوياتهم ورغم ارتقاء أكثر من 20 مواطناً إلى الشهادة من أبناء شعوبنا، إلا أنهم مستمرون في خوض الحرب الشعبية وصولاً إلى تحقيق الحرية.