رامان آزاد
في خضم ما تعيشه سوريا بعد سقوط النظام السوريّ والعوائق التي تواجهها البلاد والتحديات الأمنيّة والمتغيرات في هيكلية الدولة، وتعدد الأطراف المتدخلة في الشأن السوريّ، تبرز محاولة الإرهاب للانبعاث وإعادة ترتيب نفسه، ودمشق التي يفترض أن تتخذ موقفاً قطعيّاً إزاء الإرهاب، وتعدُّه أولوية هذه المرحلة، خسرت معركة دبلوماسيّة للانضمام إلى الجهود الدوليّة لمكافحة الإرهاب، وكانت فرصة يمكن توظيفها في مجالات أخرى. فيما تستمر واشنطن بعدم حسم موقفها النهائيّ من سلطة دمشق، لتبقيه رهن الوفاء بشروطٍ محددةٍ.
تهديد سلطة دمشق
أصدرت مرتزقة “داعش” الإرهابيّة بلاغاً دعت فيه رئيس المرحلة الانتقاليّة في سوريا أحمد الشرع، واستخدمت اسم “الجولاني” في التهديد، في إشارةٍ ضمنيّة إلى عدم الاعتراف بالواقع القائم. ونشر المقطع المصور تحت عنوان “هذا بلاغ للناس.. إقامة للحجة وبيان للحق” أُعلنت فيه الحربَ بشكلٍ رسميّ وواضحٍ ضد حكومة دمشق التي وصفتها بالإرهابيّة، وأنّهم مرتدون ويتعاونون مع الحلف الصليبيّ (امريكا).
وانتقد البيان الإعلان الدستوريّ، وجملة القوانين المعمول بها ووصفها بأنّها بعيدة عن الشريعة، وأنها مخالفة “لشرائع الله” حسب البيان. وحذّر البيان الشرع وأركان حكومته من مساعي الانضمام إلى التحالف الدوليّ والوقوف في وجهه.
وحسب مراقبين؛ فإنّ هذا الإعلان يشكّلُ حالةَ تهديدٍ خطيرة، إذ يقدر تعداد المرتزقة خمسة آلاف عنصر، وما يزيد الخطورة أنّ ٧٠% من عناصر مختلف المجموعات وحتى الهيئة، كانوا عناصر سابقين في داعش، وهناك مخاوف من انشقاقهم وإعلانهم الولاء لداعش، وخاصة من العناصر الأجنبية، وبذلك تتجاوز أبعاد الخطورة الجغرافيا السوريّة إلى مستوى الإقليمي، وعلى مستوى سوريا وخاصة أنّ هذا الإعلان جاء بعد تحذيرات أمريكية صدرت في 28/4/2025 من هجمات محتملة على سوريا ودعت من خلالها رعاياها إلى عدم السفر أو البقاء في سوريا. وسط تحذيرات من الخارجيّة الأمريكيّة من زيادة احتمال حدوث هجماتٍ أو أعمالٍ “إرهابيّة” خلال عطلة عيد الفطر قد تستهدف “السفارات والمنظمات الدوليّة والمؤسسات العامة السوريّة في دمشق”. وقالت: “ويظل هذا التحذير ساريًا نظرًا للمخاطر الكبيرة المتمثلة في الإرهاب، والاضطرابات المدنية، والاختطاف، واحتجاز الرهائن، والصراع المسلح، والاحتجاز غير العادل”، وأصدرت بريطانيا تحذيراً مشابهاً في اليوم التالي.
وسبق أنّ أصدرت مرتزقة “داعش” في 25/1/2025 إصداراً مرئياً عبر تلغرام بياناً قالت فيه: “من يدعو لدولة مدنيّة في سوريا هو شريك وعميل لليهود والصليبيين وطاغية جديد”، وتساءلت عن “سبب الخروج على نظام بشار الأسد إن كانت الثورة ستفضي إلى نظام حكم دستوري”. واتهم “داعش”، الفصائل العسكرية بأنها تنفذ حرباً بالوكالة بين “البيادق التركية والأذرع الإيرانية”، لتحصيل مكتسبات أفضل على طاولات التفاوض. وهاجم “داعش” الثورة السوريّة، ووصفها بأنها “ثورة جاهلية” لأنها تسعى لترسيخ مفهوم الدولة المدنية، مضيفاً: “ثورة تحرر من نظام قمعي يستأثر بالسلطة بغية الوصول إلى نظام آخر ديمقراطيّ يتقاسم السلطة”.
62 عملية منذ بداية العام
خلال شهر نيسان الجاري، ارتفعت وتيرة عمليات مرتزقة “داعش” في شمال وشرق سوريا؛ ما يثير مخاوف حول استعادة مرتزقة “داعش” نشاطه في البلادِ، فيما واشنطن بصدد إعادة انتشار قواتها في سوريا وتقليل عددها.
استهدفت عناصر من خلايا مرتزقة “داعش” كانت تستغل دراجة نارية، الأحد 20/4/2025، سيارة مدنية في بلدة العزبة بريف دير الزور الشمالي، ما أدى إلى اندلاع اشتباك مسلح بينهم وبين أهالٍ من أبناء المنطقة. ووفقاً لمصادر المرصد السوريّ، كانت السيارة تقلّ وجيه البلدة من أبناء عشيرة العكيدات، وأسفر الهجوم عن إصابته بجروح متوسطة، نُقل على إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاج، في حين لاذ المهاجمون بالفرار إلى جهة مجهولة عقب تنفيذ الهجوم. ويأتي هذا الهجوم في وقت يشهد فيه ريف دير الزور تكثيفاً في عمليات مرتزقة “داعش”. وأحصى المرصد السوريّ 62 عملية قامت بها خلايا مرتزقة “داعش” في مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية” منذ مطلع العام 2025، تمت بهجمات مسلحة واستهدافات وتفجيرات، ووفقاً لتوثيقات المرصد السوريّ، فقد بلغت حصيلة القتلى جراء العمليات آنفة الذكر 23 قتيلاً، هم: 13 من قوات سوريا الديمقراطيّة، والتشكيلات العسكرية العاملة معها، وخمسة من مرتزقة “داعش” وخمسة مدنيين.
وحسب تقرير “المرصد”، أنّ أساليب الهجمات تنوعت بين الكمائن المباغتة، والاستهدافات المباشرة، ما يعكس تكيف مرتزقة “داعش” مع الظروف الأمنيّة المتغيرة في المنطقة، كما تظهر هذه التطورات أنّهم ما يزالون يشكلون تهديداً مستمراً في مناطق شمال وشرق س
حملة أمنيّة في مخيم الهول
اللافت أنّ كلّ تصعيدٍ في عمليات مرتزقة “داعش” يتزامن مع فوضى أمنيّة ونشاطٍ لخلاياه في مخيم “الهول” ما يؤكد أنّهما مرتبطان ببعض في سياق خطة واحدة.
أعلنت قوى الأمن الداخلي، ووحدات حماية المرأة، خلال مؤتمر صحفي، الجمعة 18/4/2025، بدء حملة أمنيّة في مخيم الهول بريف الحسكة لملاحقة خلايا “داعش” بمشاركة قوات سوريا الديمقراطيّة ودعم التحالف الدوليّ.
والجمعة، قال المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطيّة، إن خلية إرهابيّة تابعة لمرتزقة “داعش” استهدفت نقطة لقواتهم في بلدة الطيانة بريف دير الزور الشرقي. وقال المركز الإعلامي في بيان: “لا تزال خلايا تنظيم “داعش” الإرهابيّ تحاول جاهدة زعزعة أمن واستقرار مناطق شمال وشرق سوريا، في مسعى حثيث لاستغلال حالة الفوضى السائدة في سوريا”.
وأضاف البيان: “في هذا السياق؛ استهدفت إحدى خلايا التنظيم الإرهابيّ، يوم الخميس، نقطة لقواتنا في بلدة الطيانة بريف دير الزور الشرقي بقذيفة R.B.G، تسببت بأضرار مادية، كما استهدفت أيضاً بقذيفة أخرى سيارة عسكريّة وصلت إلى المكان لتقديم الدعم والمؤازرة للنقطة العسكريّة المستهدفة، ولكنها لم تخلف أيّة أضرار”. وشدد البيان على استمرار “قسد” في “مكافحة داعش في كل الظروف والشروط، “ولن تتوقف عملياتها إلا باستئصاله من جذوره”.
وجاءت الحملة بعد التهديدات الأمنيّة وحوادث متكررة داخل مخيم الهول، الذي يضم عناصر وعوائل “داعش”، وباشرت القوات عمليات تفتيش دقيقة داخل الخيام، بحثاً عن خلايا تعمل على تهريب العوائل، فضلاً عن متورطين بنشر الفكر المتطرف وإثارة الفوضى داخل المخيم.
ويوم بدء الحملة الأمنيّة، الجمعة اُعتقل 27 عنصراً، وتمت مصادرة أسلحة، والسبت اُعتقل 16 شخصاً يُشتبه بانتمائهم لخلايا “داعش”، وجرت مداهمات أسفرت عن مصادرة كميات من الأسلحة والذخائر، في اليوم الثالث تم اعتقال أربعة أشخاص من خلايا مرتزقة “داعش”، كما عُثر خلال العملية على كميات من الأسلحة والذخائر كانت بحوزتهم.
وقالت جيهان حنّان، إنّ مخيم الهول يواجه تحديات أمنيّة بعد التطورات المتسارعة وحالة الفراغ الأمنيّ في سوريا. وأشارت إلى أن مرتزقة “داعش” يتبعون استراتيجية تعتمد على تهريب الأشخاص من المخيم، وأن “الخطر الأكبر في المخيم ليس وجود خلايا أو حمل السلاح، إنّما الفكر المتطرف الذي يتسلح به الأطفال والنساء داخل المخيم، والذين باتوا ضحايا “داعش”، ومع الأسف الأطفال يكبرون ويعيشون في بيئةٍ غير مناسبة أبداً، في ظل توريث هذا الفكر للأطفال، وبالتالي هؤلاء الأطفال سيشكلون خطراً كبيراً على المنطقة وعلى العالم أجمع في المستقبل”. وذكرت، أنه “بالفعل كان هناك حاجة ملحّة للقيام بهذه الحملة، التي بدأت بقسم المهاجرات وستشمل أقسام وقطاعات المخيم”.
ونهاية العام الماضي أعلنت قوات سوريا الديمقراطيّة، اعتقال 79 عنصراً من مرتزقة “داعش” في مخيم الهول ومحيطه في نهاية الحملة الأمنية.
خسارة معركة دبلوماسية
تعثّرت للمرة الثانية مساعي دمشق للانضمام للتحالف الدوليّ لمحاربة مرتزقة “داعش”، وهو ما يعكس مدى التحدي الذي تواجهه السلطة الانتقاليّة، في تقديم نفسها شريكاً موثوقاً به ضمن النظام الأمنيّ الإقليميّ والدوليّ. وكانت قد تقدمت بالطلب مستندة إلى قوة الدفع التي تمثلها الجهود الفرنسية والألمانية والسعودية، وكذلك إلى اعتقادها أنّها تجاوزت اختبار التشكيلة الوزاريّة بأعلى نسبة ممكنة من النجاح في إطار التناقضاتِ والضغوطِ التي كانت تتعرض لها. وسبق للإدارة الجديدة في سوريا تقديم طلب للانضمام إلى التحالف الدوليّ في 18/1/2025، أي قبل أسبوعين من انعقاد “مؤتمر النصر”.
الأمر الذي يوحي بأنّ الإدارة في دمشق تحاول الالتفاف على المطالب المتعلقة بالمقاتلين الأجانب من خلال إبراز إنجازاتها في ملفات أخرى، الأمر الذي لم يلق أي قبول أمريكيّ حتى الآن، بحسب جريدة النهار اللبنانيّة. وكانت وزيرة الخارجية الألمانيّة أنالينا بيربوك، على هامش افتتاح سفارة بلادها في دمشق في 20 آذار، قد دعت سلطة دمشق للانضمام للتحالف الدوليّ، وأبلغتها بأن “على عاتقها مهمة السيطرة على الجماعات المتطرفة داخل صفوفهم ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم”، في إشارة إلى أحداث الساحل السوريّ التي قُتل فيها المئات، غالبيتهم من الطائفة العلويّة.
وجود عناصر أجنبيّة يناقض مبادئ التحالف الدوليّ ضد “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة، ويعتمد التحالف معياراً دوليّاً لقياس التماهي مع منظومة القيم التي تتبناها القوى الغربيّة الكبرى، وفي مقدمها شرط الاحتراف المؤسساتيّ العسكريّ، والقطيعة مع منطق “الميليشيا العابر للحدود”.
وكانت نائبة مساعد وزير الخارجيّة الأمريكيّ، ناتاشا فرانشيسكي قد سلمت إلى وزير الخارجية بالحكومة الانتقاليّة أسعد الشيباني في بروكسل منتصف آذار الماضي، قائمة تضمنت ثمانية مطالب لـ”بناء الثقة” وخطوات مقابلة يمكن أن تقوم بها واشنطن.
بالمجمل خسرت دمشق جولة دبلوماسيّة كانت بحاجة ماسة لها، لإحداث اختراقٍ في المنظومة الدوليّة وأضاعت فرصة ثمينة لإعادة تعريف نفسها أما العالم، والتمظهر بالشرعيّة المؤسساتيّة، علاوةً على خسارةِ فرصة التعاون العسكريّ في إطار دوليّ. وبذلك يُنظر إليها كياناً انتقاليّاً لم يستوفِ شروط الاندماج في منظومات الأمن الجماعيّ، وهذا ما يضعف قدرتها على حشد التأييد الدوليّ لصالحها في ملفات حساسة مثل مكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار، وترتيبات الحدود.
عقدة المرتزقة الأجانب
بعثت واشنطن قبل أسابيع إلى السلطات السوريّة الموقتة بطلب واضح تضمن أسماء الضباط الرفيعين في الجيش السوريّ من حملة الجنسيات الأجنبية، والذين ترى واشنطن أن استمرارهم في مناصبهم يهدد الأمن العالمي. وأوضح المصدر أن عدد الضباط سبعة، وهم من منحوا رتباً بموجب القرار رقم ثمانية الصادر في 29/12/2024، أي قبل شهر من تفويض الشرع بالرئاسة. رغم أنّ الطلب الأمريكيّ جزء من إجراءات مطلوبة لبناء الثقة، إلا أنّ دمشق لم تستجب للطلب، ولكن من غير الواضح على ماذا تعوّل في اجتياز اختبار الدوليّ واعتراف الولايات المتحدة بها سياسيّاً.
وفي السادس من نيسان الجاري، سلمت واشنطن، البعثة السوريّة مذكرة تم تسليمها من خلال الأمم المتحدة تنصّ على تغيير وضعها القانونيّ من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة.
ويدرك قادة سوريا الجدد بحكم تجربتهم السابقة مدى اهتمام الولايات المتحدة بملف المرتزقة الأجانب، وذلك منذ حقبة “جبهة النصرة” التي أصبح اسمها هيئة تحرير الشام مطلع علم 2017. فقد استهدفت غارات طيران التحالف في تشرين الثاني 2014، مواقع في إدلب وريف حلب الغربيّ للقضاء على أعضاء جماعة “خراسان” والتي تضم في صفوفها عناصر موالية للقاعدة، واضطرت حينها “النصرة” و”أحرار الشام” لإخلاء مواقعهما لتجنب الاستهداف.
يُفهم إصرارُ سلطة دمشق الانتقاليّة على الاحتفاظِ بقياداتٍ أجنبيّةٍ في مناصب عليا في الجيش الجديد على أنّه مؤشر لعدم جديّة الاستعداد لتفكيك البُنية ما فوق وطنيّة التي تشكل جزءاً من قوتها، وأنّها ما زالت أسيرة مرجعيتها الفصائليّة العابرة للحدود، وأنّها رغم كلّ الخطوات البراغماتيّة التي أقدمت عليها لاتزال ترتبط بالحبل السريّ مع الفقه الجهاديّ القائم على نظرية التمكين والتعويل على عناصرها، وهو ما يصعّب على المجتمع الدوليّ التعامل معها بصفتها كياناً يتمتع بالسيادة الوطنيّة الخالصة.