محمد عيسى
لأول مرة منذ خمسين عاماً، يتنفس لبنان حرّيته بلا وصاية، فقد سقطت دولة حزب الله، وانهار معها الامتداد الإيرانيّ – السوريّ الذي خنق البلاد. ومع سقوط الأسد، أصبح الحبلُ السريّ الذي ربط دمشق بطهران مقطوعاً. وزيارةُ نواف سلام إلى سوريا ليست مجرد خطوة سياسيّة، بل إعلانٌ عن ولادةٍ شرقٍ جديد، تتبدل فيه التحالفات، وتُرسمُ فيه الحدود مع تأكيد الاستقلاليّة والاحترام لا بالوصاية والدم.
خمسون عاماً من التبعيّة
لبنان، البلد الذي أنهكته الحروب والوصايات والمشاريع العابرة للحدود، دخل اليوم لحظة تاريخية غير مسبوقة، حيث انتهت وصاية إيران وسوريا عليه، وسقطت دولة حزب الله التي كانت تتنفس من رئتين: طهران ودمشق، هذا السقوط لم يكن نتيجة ضربة واحدة، بل تراكُم تحولاتٍ عميقة بلغت ذروتها بإزاحة بشار الأسد عن الحكم في الثامن من كانون الأول عام 2024، وتفكك شبكة النفوذ الإيرانيّة داخل سوريا، وما تبعها من انقطاع شرايين الدعم والتمويل والتهريب إلى الحزب في لبنان.
فلأول مرة، يتنفس لبنان هواءً نقياً من دون وصاية. فمنذ السبعينيات، وتحديداً مع بداية الحرب الأهليّة عام 1975، بدأت مرحلة من التبعيةِ المقنعةِ، أولها سوريّ بامتياز، ثم لبست لاحقاً الثوب الإيرانيّ عبر “حزب الله”، وهذه الحرب لم تكن حرباً أهليّة بالمعنى الحقيقيّ، بل كانت حرب الآخرين على لبنان… على كيانه، وعلى تعدديته، وعلى تاريخه كمنصة تفاعل مشرقيّ حر.
اليوم، ومع انطفاء مشروع الهيمنة، يستعيد لبنان جزءاً من روحه، ويتقدّم بخطى سياسيّة جديدة نحو دمشق، ولكن من موقع الندّية لا التبعية، ومن بوابة السيادة لا عبر ممرات التهريب.
بين الانكسار والفرص الضائعة
ما لم يكن وارداً في أكثر السيناريوهات جرأةً، أن يكونَ لبنان، البلدُ المحاصرُ بالأزماتِ الاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والانهيارات المتتالية، هو من يدفع أولى أحجارَ الدومينو في اتجاه سقوطِ أحد أكثر الأنظمة توحشاً واستبداداً في تاريخ المشرق الحديث. هذا البلد الذي عانى طيلةَ نصف قرن من وطأة التدخّلات الخارجيّة، وبالأخص من الهيمنةِ السوريّةِ والإيرانيّةِ، انقلب اليوم على نفسه وعلى تاريخه، ليكتب سطراً غير متوقَّع في دفتر التحولاتِ الإقليميّة.
لقد كانت سوريا – تحت حكم عائلة الأسد – تمسكُ بمفاتيح القرارِ اللبنانيّ، ليس فقط عبر الاحتلالِ العسكريّ المباشر منذ عام 1976 وحتى 2005، بل أيضاً عبر شبكاتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ حاكمة، أبقت البلاد في حالة شبه دائمة من الخضوع. هذا النفوذ تجدد وتعزّز بعد خروجِ الجيش السوريّ عبر وكلاء طهران في لبنان، وعلى رأسهم “حزب الله” الذي أصبح الذراع الممتد لنظامَي الأسد وخامنئي في قلبِ الدولةِ اللبنانيّة.
غير أنّ الصورةَ انقلبت كليّاً بعد اندلاع الحرب بين حركة حماس وإسرائيل في السابع من تشرين الأول عام 2024، والتي كشفت هشاشةَ البنيةِ الإقليميّةِ التي كانت تستند إليها قوى المحور، وأظهرت حجم العزلة التي باتت تعيشها قوى “الممانعة” بعدما فَقَدَت عمقها الشعبيّ والعربيّ. في قلب هذه المعادلة، جاء الانهيار الميدانيّ والسياسيّ لحزب الله في لبنان – نتيجة الضغط الشعبيّ والعسكريّ المتصاعد – بمثابة الزلزال الذي وصلت ارتداداته سريعاً إلى دمشق.
فمع تفكك القبضةِ الحديديّة التي كان الحزب يفرضها على الداخلِ اللبنانيّ، وجدتِ المنظومةُ السوريّةُ نفسها فجأةً في العراء، فاقدة لحليفها الأهم في بيروت، وعاجزة عن تعويض ذلك الفقد عبر أي حليف إقليميّ آخر. هذا الانكشاف تزامن مع تصدع داخلي في النظام السوريّ، الذي كان يعاني أصلاً من إرهاقٍ اقتصاديّ وضغطٍ دوليّ متصاعدٍ.
وما يثير الانتباه أنّ التحول في ميزان القوى لم يتم عبر الجيوش، بل عبر تراجعِ فكرةِ “الشرعيّة بالقوة”، وسقوطُ خطابِ المقاومةِ الزائفِ الذي لطالما استُخدم لتبرير القمع في سوريا والهيمنة في لبنان. فاليوم، لا تملك دمشق خياراً سوى إعادة تموضعها الكاملِ في الخريطة السياسيّة، ولا تملك بيروت رفاهية العودة إلى الوراء، وهذا ما يجعلُ العلاقةَ بين البلدين تدخلُ مرحلةً اختباريّةً دقيقةً: فلا هم أعداء كما في مرحلة الاغتيالات والاحتلال، ولا هم “أخوة” وفق المعادلة القديمة المبنية على الخضوع.
زيارة ترسم خارطة جديدة للعلاقة
في يوم الإثنين، 14 نيسان 2025، دخل رئيس الوزراء اللبنانيّ نواف سلام إلى قصر الشعب في دمشق، واستقبله رئيس المرحلة الانتقاليّة أحمد الشرع، في مشهدٍ لا يمكن اختزاله بمجرّد بروتوكولٍ دبلوماسيّ، بل يمكن قراءته كإعلانٍ سياسيّ صريحٍ عن ولادةِ مرحلةٍ جديدةٍ في العلاقاتِ اللبنانيّة السوريّة، تنقلب فيها صفحة التحالفات القديمة وتُطوى سنوات من القهر والوصاية والشكّ المتبادل.
الزيارة، التي أتت بعد مرور خمسة أشهر فقط على سقوط نظام بشار الأسد، بدت كأنّها ترسيم لحدودٍ سياسيّةٍ جديدةٍ في المشرق، في لحظة لا تزال فيها المعارضة السوريّة تتلمّس خطواتها الأولى نحو بناء دولة من ركام الفوضى. وبين تحديات أمنيّة واقتصاديّة جسيمة، ظلّت الحدود اللبنانيّة ـ السوريّة تشهد توتراً متقطعاً بفعل نشاط فلول النظام السابق ومجموعات موالية لحزب الله، التي لا تزال تحاول العبث بخيوط الأمن الهشّة.
ورغم أنّها الزيارة الأولى من نوعها لمسؤول لبنانيّ رفيع منذ الانقلاب السياسيّ الكبير في دمشق، إلا أنّ الطرق إليها لم تكن عشوائيّة، بل سبقتها جولاتٌ من التمهيد واللقاءات الإقليميّة، خصوصاً في الرياض وأبو ظبي والدوحة، حيث انخرط رئيس سوريا المؤقت أحمد الشرع في جهودٍ دبلوماسيّة مكثفة لتأمينِ دعمٍ سياسيّ وماليّ لسوريا ما بعد الأسد. تلك اللقاءات لم تبقَ حبيسة القاعات المغلقة، بل انعكست سريعاً في مشهدٍ إقليميّ جديد، بدأت ملامحه تتشكّل بوضوحٍ، وكان للبنان فيه مكان وشراكة.
فدمشق التي كانت حتى الأمس القريب معزولةً، باتت اليوم في قلب انفتاح خليجيّ متسارعٍ، بعد أن سقطت منظومة القمع التي حكمتها لعقود. زيارات الشرع إلى العواصم الخليجيّة فتحت أبواباً كانت موصدةً، وتوّجت بتعهداتٍ ملموسة، أبرزها إعلان المملكة العربية السعودية عن نيتها تسديد 15 مليون دولار من ديون سوريا للبنك الدوليّ، كبدايةٍ لحزمةٍ أوسع من المساعدات التنمويّة المنتظرة.
ضمن هذا الإطار الجديد، لم يعد بمقدور بيروت أن تظلَّ أسيرة سياسة العداء التقليديّة التي كانت تُدار من ضاحية حزب الله، ولا رهينة الحساباتِ الإقليميّة المغلقة. فالمشهد تبدّل، والفرص التي تلوحُ في الأفق تفرض على لبنان إعادة تموضع عقلانيّ وذكيّ. فلأول مرة منذ عقود، لم يعد البلد مضطراً إلى أن يكون ضحية أزماتِ الآخرين، بل بات بمقدوره أن يكونَ شريكاً حقيقياً في إنتاج الحلّ لنفسه، وفي المساهمة بجهود الإعمار، وصياغة نظام إقليميّ أكثر عدالة واستقراراً.
الحدود تحت المجهر
تمتد الحدود اللبنانيّة السوريّة على طول 330 كيلومتراً، معظمها في مناطق جبليّة وعرة، ما جعلها على مدى عقود مسرحاً مفتوحاً لكلّ أنواع التهريب والعبور غير المشروع، من تهريبِ البضائع المدعومة والمخدرات، إلى تمرير السلاح والمقاتلين، تحولت تلك الحدود إلى شريانٍ غير رسميّ لحزب الله والمجموعات المرتبطة به، وكذلك لبعضِ المجموعات السوريّة في فتراتٍ معينةٍ، بما عزز مناخ الانفلات الأمنيّ وعمّق التشابك بين البلدين بطريقة غير صحية.
على مرّ السنوات، ورغم الاتفاقاتِ العديدةِ بين بيروت ودمشق، بقيت هذه الحدود منطقةً رماديّةً خارجة عن سيطرة الدولة الفعلية، تُدار عبر شبكاتٍ محليّةٍ وعشائريّةٍ لها ارتباطات بأجهزةٍ أمنيّةٍ وشخصياتٍ نافذةٍ من الطرفين. وقد ازدادت خطورة هذا الوضع بعد دخول سوريا في أتون الحرب الأهليّة، حين تحولت الحدود إلى معبر للإمدادات العسكريّة والماليّة لحزب الله، الذي انخرط بعمقٍ في الدفاع عن نظام الأسد، وهو ما حول لبنان لاحقاً إلى ساحةٍ مكشوفةٍ أمام ارتداداتِ الأزمة السوريّةِ.
لكن ما كان صعباً بالأمس، أصبح ممكناً اليوم، بعد التغيراتِ الجذريّةِ التي طالت كلّاً من دمشق وبيروت، ففي زيارته الأخيرة إلى العاصمة السوريّة، أعلن رئيس الوزراء اللبنانيّ نواف سلام عن اتفاق مبدئيّ مع رئيس المرحلة المؤقتة في سوريا أحمد الشرع، يقضي بوضعِ آليّةٍ مشتركةٍ لضبط الحدود ومنع التهريب، تمهيداً لمرحلة أكثر طموحاً تتضمن ترسيماً شاملاً للحدود البريّة والبحريّة، في خطوةٍ وصفها مراقبون بأنّها “نقطةُ تحوّلٍ في علاقة كانت محكومة دوماً بالشكِّ وانعدام الثقة”.
اللافت أن سوريا – ولأول مرة منذ عقود – أبدت استعداداً جدياً للتعاون في هذا الملف، وهو استعداد مدفوعٌ برغبتها في الحصول على دعم ماليّ خليجيّ وإقليميّ، يتطلب بداهة خلقَ مناخٍ سياسيّ وأمنيّ مستقر يضمن سلامة الحدود ووقف التهريب، خصوصاً بعد أن أصبحتِ البلاد تحت أنظار المؤسسات الماليّة الدوليّة.
وقد سادت المناطق الحدوديّة في الأشهر الأخيرة حالة من التوتر الأمنيّ، تفجّرت في السادس عشر من آذار الماضي، عندما اندلعت مواجهات دامية بين قوات الحكومة السوريّة الجديدة – الموالية للشرع – وخلايا مسلحة تابعة لحزب الله حاولت التسلل من داخل الأراضي اللبنانيّة.
ما بعد تلك المواجهة ليس كما قبلها، فالمجريات التي أعقبت الاشتباك أظهرت بشكل لا لبسَ فيه أنّ حزب الله فقد موقعه في سوريا، ولم يعد يمتلك أيّ أوراقِ ضغط، سواء عسكريّة أو سياسيّة.
الحدود التي لطالما كانت نقطة نزاع واشتباك بين لبنان وسوريا، بدأت تتحول إلى مساحةِ اختبارٍ لحُسن النيات وبناء الثقة. فنجاحُ هذا الملف من شأنه أن يؤسسَ لعلاقةٍ مختلفة، قائمة على التعاون وليس الابتزاز، وعلى الشراكة الأمنيّة لا على استخدام النفوذ. إنّه اختبارٌ مبكر، لكنه حاسمٌ لمسار العلاقة بين بيروت ودمشق في ظلِّ التحولاتِ الكبرى التي تعيشها البلدان.
الهجرة والعودة… من العبء إلى الشراكة
لبنان، البلد المرهق تحت ضغط الانهيار الاقتصاديّ والسياسيّ، يستضيف منذ أكثر من عقد نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، بينهم 755,426 لاجئاً مسجّلاً رسمياً لدى مفوضية الأمم المتحدة. هذا الواقع الديمغرافي المعقد تحوّل إلى أحد أكثر الملفات حساسيةً في العلاقة بين بيروت ودمشق، بعدما استُخدم مراراً كورقة ابتزاز سياسيّ، خصوصاً من قبل نظام الأسد الذي لطالما لجأ إلى توظيف ملف اللاجئين في بازار العلاقات الإقليميّة والدوليّة.
لكن هذه المعادلة بدأت تتغير. حمل نواف سلام، خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق، مقاربة مختلفة: شراكة في الحل بدل الإملاء، وعودة آمنة وكريمة بدل الترحيل القسري، ووفق مصادر حكومية، فقد طرح الوفد اللبنانيّ الملف بشكلٍ مباشر مع الرئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وتلقى إشارات إيجابية مشروطة بضمانات أمنيّة ولوجستية كفيلة بحماية العائدين، وضمان ألا تتحول العودة إلى شكل جديد من العقاب الجماعي.
زيارة نواف سلام لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل لحظة مفصلية تؤشر إلى ميلاد صفحة جديدة بين بلدين تقاطعت مصائرهما أكثر مما تمايزت. فإلى جانب ملف اللاجئين، أعاد سلام طرح قضية المفقودين اللبنانيّين في سجون النظام السوري، مؤكداً أن المصالحة الحقيقية لا تكتمل من دون مواجهة الماضي بشفافية وإنصاف.
ومع نهاية الزيارة، كانت بيروت ودمشق قد فتحتا معاً باباً كان موصداً لعقود. باب الاحترام المتبادل، والتعاون الندّي، والرغبة في طيّ صفحة الوصاية والدم.
وبين تفكك حزب الله وسقوط نظام الأسد، وبين تحرر بيروت وانفتاح دمشق، يُعاد رسم مشهد إقليميّ طالما حلمت به شعوب المنطقة: شرق بلا وصاية، بلا سلاح، بلا طغيان.
ويبقى السؤال: هل تنجح العاصمتان في بناء علاقة جديدة، نظيفة من شظايا الماضي؟ وهل تصمد الإرادات أمام لعنة التوظيف الخارجي والتدخّلات؟ الجواب لا يُكتب في خطابات القادة، بل في تفاصيل الواقع: على الحدود، في المخيمات، وفي دهاليز التفاوض… هناك فقط تُرسم خرائط السلام، أو تُستعاد خرائط الحرب.