صلاح الدين مسلم
في دهاليز الدول، وأروقة الخداع الأزليّ، تدور الألاعيب وتُبدّل الأقنعة كما تُبدّل الفصول، تتكرر ذات المسرحية، وإن تغيّر الممثلون. فها نحن اليوم نرى زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي؛ أوزغور أوزيل، يخرج من بين الركام، متشحًا بثوب التعاطف، موجهًا كلماته المعسولة نحو الكرد، وكأنما اكتشف فجأة أنّ هناك شعبًا يُظلم، وتاريخًا يُغتال، وأملًا يُقبر على يد آلة الدولة. لكنه؛ خرج، كما يقول المثل: “بعد خراب البصرة”. خرج حين احترقت أوراقه، وتبعثرت رهاناته، وتهاوت جدران أحلامه المترفة في قصر المعارضة، كأننا أمام ساقٍ يريد أن يبيع الماء في حارة السقايين.
يا أوزغور، أين كان صوتك حين زُجّ برؤساء البلديات الكرد في غياهب السجون؟ أين كان ضميرك حين سُحلت الديمقراطية في شوارع آمد ووان وجزيرة بوطان؟ حينها، كنتَ تمشي على حبل التوازن، تخشى أن تزعج ذهنية الدولة العميقة، التي ربتكَ صغيرًا على أن الكرد خطر، لا شركاء وطن.
اليوم، تأتي إلينا بوجه يقطر تعاطفًا، ولسان يقطر حزنًا؟ هل تذكرتَ فجأة أن هناك قضية اسمها القضية الكردية؟ أم أنّ رياح الخسارة الانتخابية عصفت بأوراقك اليابسة، فآثرتَ أن تزرع بعضها في أرض الكرد، علّها تثمر؟
لكنّ الكرديّ الحرّ يقول له: لسنا ذلك العابر المتعب الذي يشتري أي بضاعة. نحن أبناء الجبال، تلامذة القائد، لا تنطلي علينا ألعاب المدن. مررنا بتجارب تشيب لها الرؤوس، ورأينا أقنعة كثيرة تتساقط، وشعارات زاهية تتعرى تحت وهج الحقيقة.
ما يفعله أوزغور اليوم يشبه كثيرًا ما فعله بعض المعارضين السوريين من القوميين، حين حاولوا تسويق خطاب “الدولة الواحدة”، و”العدالة للجميع”، وهم في قرارة أنفسهم يرفضون مجرد فكرة الكردي الفاعل، الشريك، الحاضر. نتذكّر الزعبي وأمثاله، حين كانوا يضحكون علينا بخطب باردة، وكلماتٍ تُكتب على ورق مبلّل، لا تصمد أمام حرارة الواقع.
لكننا لم نقع في الفخ السوري القومي، ولن نقع في الفخ التركي المعارض، فالعقلية القومية العنصرية، سواء لبست لباس المعارضة أو تذرعت بالديمقراطية، تبقى هي ذاتها: تنظر إلينا كأرقام، كأوراق في معركة، لا كشركاء في الوطن، لا كشعب يحق له أن يحلم ويحقق. لسنا ضد المصالحة، ولا نرفض الأيدي الممدودة، لكننا نعرف جيدًا كيف نقرأ الكفّ بقلوبنا، وبتنا نميز اليد التي تصافح، واليد التي تطعن.
أيها الزعيم المعارض، الطريق إلى قلوبنا لا يمر عبر كلمات موسمية، بل عبر مواقف راسخة، لا تتبدل مع رياح الانتخابات، والتعاطف لا يُصنع بعد الهزيمة، بل يُبنى قبلها، حين يكون الثمن باهظًا والوقوف مع الحق مخاطرة.
فمن أراد أن يقف معنا، فليأت عاريًا من الأقنعة، نظيفًا من شوائب الحسابات، نقيًا من جراح النفاق، أما من جاء بعد خراب البصرة، فلن يجد سوى أطلال الكلام، وذكريات من زمنٍ لن يعود.