علي زاخراني
لقد ودَّع المؤمنون موسماً عظيماً فاضلاً أقبلت فيه القلوب على الله عبادةً وطاعة، وتنافس فيه العِباد بأنواع القربات وصنوف العبادات، فذاك حريصٌ على ختم القرآن، وآخر متفقدٌ حاجة المساكين والأرامل والأيتام، وثالثٌ مقبِلٌ على العبادة والصلاة والقيام، ورابعٌ يجمع لنفسه من صنوف الخيرات وأبواب العبادات ما ييسره له الملك العلام، ولكلٍّ في الخير وجهة هو مولِّيها متسابقين في الخيرات فما أعظم غنيمتهم!، وما أكبر ربحهم! وما أحسن الخير الذي غنموه!، فهنيئاً لهم ثم هنيئاً.
وإذا كان المسلمون قد ودَّعوا شهر رمضان موسم الغفران والعتق من النيران وموسم التنافس في طاعة الرحمن فإنهم لم يودِّعوا بتوديعه أبواب الخيرات، فلا تزال مواسم الخيرات متجددة وأبواب الخيرات متتالية، وينبغي على المؤمن أن يغنم حياته وأن يستغل وجوده في هذه الحياة لاغتنام كل مناسبة كريمة ووقت فاضل متسابقاً مع المتسابقين في الطاعات مسارعاً لنيل رضا رب البريات سبحانه وتعالى.
وإن من علامات قبول الطاعةَ بعدها، والحسنة تنادي أختها، وقد قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: “إن من علامة قبول طاعة الصيام والقيام في شهر رمضان، أن تكون حال العبد بعد رمضان حال سكينةٍ ووقار وشكرٍ لله تبارك وتعالى وإحسانٍ في الإقبال على الله عز وجل”، فإذا كان الإنسان كذلك فإن ذلك من أمارات القبول وعلامات الخيرية.
أما إذا كانت حالُ الإنسان بعد رمضان تحوُّلاً من الطاعة إلى الإضاعة وإقبالا على المعاصي والآثام فليس ذلكم من أمارات الخير، ولقد قال أحد السلف قديماً عندما حُدِّث بحال بعض الناس يجتهدون في شهر رمضان وإذا انقضى فرطوا قال: “بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان”.
إن رب الشهور واحد، فرب رمضان هو رب شوال ورب الشهور كلها ، وكما قال بعض السلف: “كن ربانياً ولا تكن رمضانياً”، أي لا تكن طاعتك لله وعبادتك له سبحانه وتعالى محدودة بهذا الشهر، بل حياتك كلها موسم لطاعة الله جل وعلا، قد قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، أي حتى يأتيك الموت، وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .
وهاهنا مثلٌ عظيم يجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه، أرأيتم لو أن امرأةً كانت تُحسن الغزل وتتقنه فأخذت شهراً كاملاً تُبرم غزلها وتحكِمه وتتقنه، فلما أكملت شهراً نصباً وتعباً وجِدّا عادت إلى غزلها تنقضه بعد إحكامه كيف يقول القائلون عنها؟!، وماذا يتحدَّث الناس عن حالها؟!، فإنها حالٌ بئيسةٌ مفارقةٌ للعقل والحكمة، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى منبهاً لهذا الأمر عباده: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.
نعم، إذا وُفِق العبد لطاعة الله جل وعلا وأقبلت نفسه على الطاعة وتمرَّنت على العبادة وراضت للطاعة ولانت بعد انفلاتها لا يليق بحال إنسان وفَّقه الله، لذلك أن ينقض هذا المحكَم المبرَم وأن يتحول إلى حالة يعلم من نفسه أنها لا ترضي ربه تبارك وتعالى.
إن الوقت الذي يعقب رمضان، هو وقت شكرٍ لله تبارك وتعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومن المعلوم أن العصيان بعد الطاعة ليس من الشكر للموفِّق للطاعة جل وعلا، بل حقيقة الشكر، أن يعمل العبد طاعةً لله محققاً بطاعته لله شكر الله.
فلنحاسب أنفسنا ونزن أعمالنا ونتفكر في حالنا، إن انقضاء شهر رمضان مؤذِنٌ بانقضاء عمر كل واحد منا، لأن الأزمان شهور وأسابيع وسنوات هي من جملة عمر الإنسان، فأنت أيها الإنسان زمنٌ محدود ووقتٌ معدود ينتهي عمرك بانتهاء زمانك، ولهذا فإن مرور الشهور والأعوام يعد تذكرةً وتبصرةً للمؤمن، فإن اليوم أو الشهر أو السنة التي تنقضي هي جزء من عمرك، ينقص عمرك بنقص الشهور والسنوات أو انقضاء الشهور والسنوات، وكل يوم أو شهر أو سنة تنقضي تُدنيك من أجلك وتقربك من منيَّتك.
إذا كنا في وقتٍ قريب نترقب دخول رمضان ونتحيَّن مجيئه وها نحن قد ودَّعناه !! فأعمارنا شأنها شأن رمضان وشأن السنوات، فليعتبر عبدُ الله المؤمن وليتفكر في حاله وليحاسب نفسه وليزن أعماله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل.