دجوار أحمد آغا
تاريخ الكرد المعاصر مليء بالكثير من الأحداث المؤثّرة سواء تلك التي سببت لنا نحن الكرد الآلام، أو التي كانت سبباً في بقاؤنا على قيد الحياة كشعب مقاوم حر وأصيل، يعمل وبكل جهد من أجل الحصول على حقوقه التي سلبها منه الأعداء والغزاة المحتلين. نحن شعب يعشق الحرية، شعب عاش طوال عمره بين جباله الشاهقة، ووديانه السحيقة، كهوفه العميقة. شعب يحب بقية الشعوب والعيش معهم بسلام.
ولأننا شعب أصيل في منطقة ما بين النهرين “ميزبوتاميا” فقد ساعدنا الكثير من شعوب المنطقة في بناء أوطانها وقدّمنا لهم الكثير من المساهمات سواء الفكرية، العسكرية، الاجتماعية، وحتى الدينية، لكن بالمقابل لم نلقَ من حُكّامهم سوى الظلم والطغيان والتهميش ورفض وجودنا كشعب أصيل في المنطقة. كل ذلك من أجل حب السلطة والسيطرة علينا وحتى على شعوبها. مقال اليوم مخصص عن أحد القادة العظام من أبناء شعبنا الكردي الذي ما يزال اسمه حاضراً وبقوة في يومنا الحالي. إنه القاضي محمد أول رئيس لأول جمهورية كردستانية في التاريخ المعاصر.
الولادة والنشأة
القاضي محمد سليل عائلة وطنية عريقة ومشهورة في منطقة موكريان. والده كان قاضياً وهو علي بن قاسم بن ميرزا، أما والدته فكانت من عشيرة “فيض الله بك” المعروفة في المنطقة. ولد القاضي في الهام 1901. عاش في كنف والده الذي اهتم به كثيراً خاصة وأن القاضي ومنذ صغره، كان يتمتّع بسعة أفق وحب كبير للعلم والمعرفة، الأمر الذي مكّنه من التبحر في أمور الشريعة والفقه الإسلامي على يد أئمة وفقهاء مشهورين في المنطقة.
بالإضافة الى ذلك، تعلّم القاضي محمد الى جانب لغته الكردية كلاً من العربية، الفارسية، التركية، الفرنسية، والإلمام بالإنجليزية والروسية. على الرغم من أن عائلته طانت من العوائل الثرية والغنية في المنطقة، إلا أن القاضي كان متواضعاً، بعيداً عن الغرور، وله علاقات واسعة من الناس البسطاء والفقراء حيث كان يقدّم لهم يد المساعدة.
مسيرته النضالية
تأثر القاضي محمد بالواقع الذي يعيشه شعبه الكردي وانضم الى جمعية “خويبون” التي قادت ثورة جبل آكري عام 1927. بدأ القاضي بإعطاء المزيد من وقته لقضية شعبه الكردي والظلم الواقع عليه، فهو كان قاضياً بعد وفاة والده ويتمتع بسمعة جيدة جداً بين عموم الشعب الكردي في المنطقة. العام 1944 كان مفصلياً في حياة القاضي إذ قام برفقه العديد من المناضلين السياسيين والمثقفين الكرد في روجهلات كردستان بتأسيس “جمعية الإحياء الكردي” التي أصبحت فيما بعد النواة لتأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني. مع تأسيس الحزب، بدأ القاضي ورفاقه بالعمل من أجل حقوق الشعب الكردي من خلال التواصل مع الآذريين والروس السوفييت الموجودين في المنطقة خاصةً مع انسحاب الجيش الإيراني منها. كان الحزب الديمقراطي الكردستاني أول تنظيم سياسي يعمل من أجل القضية الكردية في روجهلات كردستان وأصبح القاضي محمد رئيس الحزب ومهّد هذا الأمر لإعلان تأسيس جمهورية كردستان الديمقراطية في مهاباد.
تأسيس جمهورية كردستان الديمقراطية
الظروف المحلية والدولية كانت مهيئة بشكلٍ كبير للكرد بأن يحصلوا على بعض حقوقهم خاصةً في ظل التوازنات الدولية التي بدأت تظهر الى الوجود ومع التقدم الكبير الذي حققه الاتحاد السوفيتي في ساحات الحرب العالمية الثانية ودعمه لحركات التحرر الوطني في الكثير من البلدان، رأي القادة الكرد بأنه حان الوقت للحصول على حقوقهم المشروعة والعادلة في العيش بحرية وكرامة فوق تراب وطنهم الأم كردستان.
وبعد وعود من السوفييت بدعمه، قام القاضي محمد في يوم 22 كانون الثاني من العام 1946 بالإعلان عن تأسيس جمهورية كردستان الديمقراطية ورفعها علمها مع عزف النشيد القومي الكردي “أي رقيب” في ساحة جارجرا بمدينة مهاباد في شرق كردستان. تم انتخاب القاضي محمد رئيساً للجمهورية التي جسّدت الحلم الكردي بتأسيس كيان كردي على أرض كردية. أصبحت اللغة الكردية ولأول مرة اللغة الرسمية في الجمهورية، تم افتتاح مدارس وإنشاء إذاعة وإصدار صحف ومجلات وطباعة الكتب كلها باللغة الكردية. دخلت المرأة الكردية في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال تأسيس الاتحاد النسائي الكردستاني وفتح المدارس الخاصة بالمرأة، لكنها للأسف الشديد لم تدُم طويلاً.
انهيار الجمهورية واعتقال الرئيس
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوضح معالم العالم الجديد ثنائي القطب، وبضغط من القوى الغربية، انسحب الجيش الأحمر السوفيتي من مناطق أذربيجان وكردستان بتاريخ 26 آذار 1946 الأمر الذي تركها فريسة سهلة للجيش الإيراني المدعوم من الإنجليز. شهران فقط كانا كافيان للجيش الإيراني من أجل إعادة السيطرة على أذربيجان، هذه السيطرة أدّت الى بقاء مهاباد وحيدة في المواجهة.
على الرغم من إقرار مجلس الحرب في الجمهورية الفتية بالاستعداد لمواجهة الجيش الإيراني وخوض الحرب دفاعاً عنها، إلا أن القاضي محمد رأي بأن يتم استقبال طلائع الجيش الإيراني بسلام وعدم خوض حرب خاسرة عملياً في ظل التفوق الكبير للعدو وبقاء الجمهورية لوحدها وحرصاً على سلامة الأهالي وعدم حدوث مجازر بحقهم، وبالفعل فقد دخل الإيرانيون في 17 كانون الأول إلى مهاباد وقاموا بعدها بعدة أيام باعتقال القاضي محمد وبقية قادة الجمهورية وإرسالهم إلى طهران.
المحاكمة وقرار الإعدام
أمام محكمة عسكرية في العاصمة الإيرانية طهران، تمت محاكمة القاضي محمد وابن عمه وأخيه. لم يقبل القاضي بالتهم الموجّهة إليه ورفض المثول أمام المحكمة العسكرية كونه رجل مدني، لكن لم يتم السماح له حتى باختيار من يدافع عنه وقامت المحكمة نفسها بتعيين أحد المحامين العسكريين مدافعاً شكلياً عنه.
القاضي محمد دافع وبقوة عن حقوق شعبه وعدالة القضية التي يُحاكم من أجلها، لم يُظهر أي خوف أو ندم في مواجهة الجبروت والقوة الكبيرة للمحكمة العسكرية، حتى أنه قام بضرب أحد المدّعين العامين بالكرسي لدى تهجمه على الشعب الكردي. لم يتنازل عن كبريائه وشجاعته وإيمانه العميق بالقضية التي يقدم روحه من أجلها وقال خلال لقاء خاص في السجن مع بعض معارفه: “يجب عليكم أن تستمروا في نضالكم من أجل التحرر والرفعة والعزة والكرامة ولا تسلموا أسلحتكم على الإطلاق مهما كان الثمن”، وفي ختام المحاكمة الشكلية والغير عادلة تم إصدار قرار الإعدام بحق القادة الثلاثة.
الإعدام وآخر كلماته
لم تنتظر السلطات القمعية الإيرانية كثيراً بعد المحاكمة الصورية التي أجرتها للقائد القاضي محمد، وقامت بتاريخ 31 آذار من العام 1947 بإعدام كلاً من القاضي محمد رئيس الجمهورية، وابن عمه محمد حسين سيف قاضي، وشقيقه أبو القاسم صدر قاضي شنقاً حيث تم نصب المشانق لهم في المكان نفسه الذي تم فيه الإعلان عن تأسيس الجمهورية أي ساحة جارجرا في وسط مهاباد.
بعد تنفيذ الحكم الجائر بحق قادة الجمهورية قام أهالي مهاباد وبكل احترام ومراسيم مهيبة بدفن جثامين الشهداء الثلاثة في مقبرة “ملا جامي” في مهاباد، والتي أصبحت فيما بعد مزار للشهداء ولعموم الشعب الكردي. يُذكر أنه لدى تنفيذ الحكم بحق القاضي محمد، أراد الجلادون أن يعصبوا عينيه إلا أنه رفض ذلك بشكلٍ قاطع وخاطبهم بالقول: “أنا لا أشعر بالعار لكي يعصب عيني أمام أمتي ووطني الحبيب، أنا أريد أن أنظر إلى وطني الجميل والحبيب في آخر لحظة من حياتي”. أما آخر كلمات الرئيس الشهيد فكانت: “عاشت الأمة الكُردية، عاش تحرير كردستان”.
وفي الختام ما تزال المسيرة مستمرة
رغم الآلام والمآسي الكبيرة التي خلّفها سقوط وانهيار الجمهورية الفتية، وإعدام قادتها المناضلين الشجعان وعلى رأسهم القاضي محمد رئيس الجمهورية الذي لم يتخلَ عن الأهالي الذين وثقوا به وساهموا في بناء الجمهورية خاصةً أهالي العاصمة مهاباد، إلا أن هذه الجمهورية ذات الـ 330 يوم، أظهرت الكثير من الأشياء التي كانت مخفية. كما أنها وضّحت العديد من الأمور التي كانت ما تزال غير واضحة المعالم، لعل أبرزها يكمن في أن الحكومة الإيرانية لم تكُن مستعدة لمنح الحكم الذاتي لكرد روجهلات.
صدرت العديد من الكتب والأفلام الوثائقية عن جمهورية كردستان ربما أهمها الكتاب الذي ألفه وليام إيغلتن تحت عنوان (جمهورية مهاباد 1946) بالإضافة إلى كتاب القائد الشهيد عبد الرحمن قاسملو وكذلك الفيلم الوثائقي (مهاباد كردستان.. حلم الدولة). نعم كان سقوطها نكسة كبيرة لنا، لكن وجودها كان ذو أثر كبير جداً علينا من أجل الاستمرار في مسيرة الحرية التي ما تزال مستمرة الى يومنا هذا. أبرزها إقليم كردستان – العراق، الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا وروج آفا، والتطورات الكبيرة على وضع القضية الكردية في باكور كردستان ورسالة السلام التي أرسلها القائد أوجلان كلها تؤشر لمرحلة جديدة في تاريخ الكرد المعاصر.