أفيندار مصطفى
الدساتير عادة ما تُكتب بحبرٍ كثيفٍ من الوعود، لكن بعضها يبدو وكأنه كُتب بحبرٍ سريٍّ لا يُرى إلا بعد فوات الأوان، حين تكتشف النساء أن حقوقهن قد تبخّرت بين سطورٍ فضفاضة، مليئة بالمراوغة القانونية والخطاب الذكوري المبطّن.
والحديث هنا عن مسودة الدستور السوري الجديد، التي يبدو أن كُتّابها اجتمعوا في غرفة مغلقة، بعيداً عن نصف المجتمع، ليقرّروا نيابة عنه كيف ينبغي أن يكون وجوده. أو بالأحرى، كيف يمكن تقليصه!
في كل مرة تُصاغ فيها مسودة دستور جديد في الدول المتأزمة، يُسوَّق لها على أنها خطوة نحو الديمقراطية، لكن الحقيقة أن الديمقراطية لا تُصنع بتكرار الأخطاء ذاتها ببدلاتٍ قانونية جديدة. والمفارقة أن الدستور السوري الجديد، الذي كان يُفترض أن يكون خطوة نحو التغيير، يبدو وكأنه يخطو خطوة إضافية في طريق الإقصاء، خاصة للنساء اللواتي كنّ في قلب المعركة ضد الاستبداد والحرب والفوضى. لكن ما المكافأة التي قُدّمت لهن؟ تقنين تهميشهن، ومنحهن حقوقاً أقل من الحد الأدنى، وكأن المواطنة لا تشملهن إلا حين يحتاج الوطن لدموع الأمهات وزغاريد الثكالى!
الدستور السوري الجديد… نسخة مطوّرة من الإقصاء
المشكلة في الدستور السوري الجديد ليست فقط في غياب النساء عن طاولة صياغته، بل في العقلية التي صيغ بها. فحين تُهمّش مشاركة النساء في السياسة والاقتصاد، وحين تُترك مفاهيم مثل “الأحوال الشخصية” و”دور المرأة” مفتوحة للتفسيرات التقليدية، فهذا ليس مجرد سهو، بل استراتيجية. استراتيجية لضمان بقاء السلطة بيد الفئات ذات الامتيازات التاريخية، وضمان أن تظل المرأة في خانة “المُلحق” لا “الشريك”.
إن الدساتير التي لا تحترم النساء ولا تحفظ حقوقهن ليست دساتير أوطان، بل نصوص قانونية لتنظيم نادٍ مغلق للذكور! فكيف لوطن أن ينهض إذاً كان نصفه مقيداً، ونصفه الآخر يتخبط في فوضى ذكورية لا تعترف إلا بالقوة؟
شمال وشرق سوريا… تجربة خارج القطيع
على الطرف الآخر من المعادلة، في إقليم شمال وشرق سوريا، حيث نبتت بذرة مشروع ديمقراطي مختلف، وُجد نموذجٌ أثبت أن كتابة الدساتير لا تحتاج إلى إقصاء، بل إلى رؤية عادلة. فقد استطاع العقد الاجتماعي في إقليم شمال وشرق سوريا أن يؤسس لفكرة جوهرية: المرأة ليست موضوعاً يُناقش في الهوامش، بل ركيزة من ركائز السياسة والاقتصاد والمجتمع.
القوانين التي أُقرت هناك لم تكتفِ بالمساواة الشكلية، بل أوجدت نظاماً يفرض المشاركة الفعلية عبر مبدأ الرئاسة المشتركة، والذي لم يكن مجرد ديكور ديمقراطي، بل وسيلة لضمان عدم انفراد أي فئة بصنع القرار. أضف إلى ذلك محكمة المرأة، التي تُعالج قضايا العنف والتمييز من منظور نسوي عادل، وتحرير قوانين الأحوال الشخصية من الهيمنة الدينية والعشائرية؛ ما أعطى المرأة حرية اتخاذ القرار في زواجها، وطلاقها، وإرثها.
لم يكن هذا النموذج مثالياً، لكنه على الأقل لم يتعامل مع النساء على أنهن مشكلة قانونية يجب “إدارتها”، بل قوة اجتماعية يجب تمكينها. وهذا هو الفارق الجوهري بين دستور يُكتب لضبط المجتمع ضمن حدود تقليدية، ودستور يُكتب لتفجير طاقاته وإعادة تشكيله بعدالة.
وطن بلا نساء.. وطن بلا مستقبل
الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو مرآة لقيم المجتمع. وإن كان الدستور السوري الجديد يُصرّ على تهميش المرأة، فإن ذلك ليس مجرد خلل قانوني، بل إعلان صريح بأن الوطن يُعاد تشكيله ليكون أكثر انغلاقاً وأقل عدالة.
في النهاية، ليست المشكلة أن النساء مستبعدات من صياغة الدستور، بل أن هذا الاستبعاد ليس مجرد غياب، بل قرارٌ سياسيٌ واعٍ بأن المرأة لا تستحق أن تكون جزءاً من مستقبل الوطن. لكن الوطن الذي لا يتسع للمرأة، لن يتسع للحياة، ولن يكون أكثر من مساحة جغرافية تُحكم بالقوة، لا
دولة تُبنى بالعدالة.